ذوّبَت السنواتُ الخمس من عمر الحرب السورية ثوابتَ المتقاتلين التي لطالما تصَوّروا أنّها غير قابلة حتّى للنقاش، ليتبيّن مع إطالة أمد الحرب أن لا نهاية بربحٍ صافٍ أو خسارة كاملة الأوصاف لأيٍّ كان.فتوازُن القوى الإقليمية والدولية رسَم خطوطاً حمراً للفريقين على الأرض. فلا مؤيّدو الحكومة السورية قادرون على إعادة عقارب سوريا إلى ما قبل انفجار صاعق الحرب، ولا خصومُها استطاعوا تدميرَ البنية العميقة للدولة وعلى رأسِها الجيش رئة النظام التي يتنفّس منها مؤيّدوه حتى الساعة.

وبعد عجز الحلّ العسكري رغم كلّ التزخيم له على كلا الجبهتين، سواء من الحكومة التي جاء أصدقاؤها من «حزب الله» بداية، الى المستشارين الإيرانيين، فلواء الفاطميون الأفغان وصولاً إلى «السوخوي» الروسية في مواجهة مقاتلي 82 جنسية تُساندهم قوى إقليمية ودولية شرَّعت الحدود لشتّى أنواع الدعم والتسليح.

بدا الجميعُ بحاجة الى الحلّ السياسي إذا ما أرادوا تجميدَ عدّاد القتل والفوضى التي تمدَّدت خارج الحدود السورية وركبَت أمواج البحر المتوسط لترسوَ في عمق العواصم الاوروبية من بروكسل الى باريس.

إلّا أنّ الطريق الى الحلّ السياسي بات أكثر تعقيداً من خريطة القتال الميداني في ظلّ معارك «شدّ الحبال» على عناوين مختلفة، لعلّ أبرزَها مصير الرئيس بشّار الأسد ومراحل الانتقال السياسي (المصطلح المفخّخ على حدّ تعبير إحدى المرجعيات المعنية بالملف السوري)، إلّا أنّ ارتفاع منسوب الكلام عن الحلّ السياسي سجّل تزامناً مع تعيين الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ستيفان دو ميستورا بدلاً من الأخضر الإبراهيمي مبعوثاً دوليّاً للسلام في سوريا.

دو مستورا حاملٌ في سيرته الذاتية محطتين لا يمكن تجاوزُهما، الأولى في جنوب لبنان بين عامي 2001 و2004 كممثّل شخصي للأمين العام، والثانية في العراق بين عامي 2007 و2009 في مهمّة شبيهة بنظيرتها في سوريا. وما لِتَينِك المحطتين من أثرٍ في تكوين فهمِه للمنطقة وأثرِه لاحقاً على تعاملِه في الملف السوري المناط به كمبعوث أممي.

وفيما وصَل دو ميستورا إلى دمشق في زيارته الرسمية الأولى عبر مطار بيروت في النصف الاوّل من ايلول 2014، حطّت طائرة أخرى في بيروت على متنِها باحثون من أحد مراكز الدراسات والأبحاث القريبة للبيت الأبيض، في زيارتين بَدتا منفصلتين تماماً حينها. ليتبيّن بعد قرابة العامين أنّ ما وصل إليه دو ميستورا من «وصفة» لنهاية نزيف الحرب السورية ليس إلّا ما جاء يسأل عنه الباحثون الأميركيون في بيروت.

وفي التفاصيل أنّ صحافياً قريباً من دائرة صناعة القرار في دمشق، وشخصيات سياسية «ممانعة» استقبلت حينها (في النصف الأوّل من ايلول 2014) في بيروت كلّ على حدة وفد الباحثين الأميركيين في جلسات طويلة خلصت الى سؤال واحد جاء يتلمّس الأميركيون الإجابة عنه: أيّ نظام يصلح للحلّ في سوريا؟ اللبناني وفق «الطائف»، أو العراقي المصدّق عليه لاحقاً من «الكونغرس» الأميركي بنكهة «الفدرالية المقنّعة»؟

واليوم بعد قرابة السنتين على بداية مهمّة دو ميستورا المبعوث الأممي حامل الجنسيتين الإيطالية والسويدية المثقَل بتجربتَيه السابقتين اللبنانية والعراقية، يستحضر إلى أذهان أولئك الذين التقوا الباحثين الأميركيين في لبنان، أنّ ما تشهده سوريا اليوم بدأ الإعداد لطبخِه في حينها، كحلٍّ سياسي لسوريا من بينه طبق الدستور الجديد الذي أنكرَه الرسميون في البدء، ليتبيّن اليوم أنّه إنكار بمثابة تأكيد مضاف على ما تسرّب من بين أوراقه الزرقاء من مواد وبنود مفخّخة. (تسريب يبدو مقصوداً لجَسّ نبضِ الأطراف كافّة، فضلاً عن الشارع السوري).

دستور جديد يشكّل جسرَ «الانتقال السياسي» بين دفّتَي القتال ووقف إطلاق النار الشامل في مواءمةٍ بين «اللبننة» و«العرقنة»، ما قد يوقف الحرب السورية فور خروجه إلى حيّز التنفيذ، إلّا أنّه بنظرِ البعض سيؤسّس لحروب مقبلة بلا شكّ.

فالتجربة اللبنانية أثبتَت أنّها قابلة للتدهور بالكيان الصغير عند كلّ منعطف سياسي دولي وإقليمي، أمّا التجربة العراقية فعدّاد نزيف الدم كفيل بالإجابة عن مدى نجاحها، فضلاً عن الفشل القاتل، سواء على المستوى السياسي أو المعيشي في كلا البلدين المثقَلين بالفساد والوهن.