تترسّخ قناعة لدى الكثير من اللبنانيين أثناء متابعاتهم لأخبار السياسة في بلدهم أو في بلدان أشقّائهم العرب أنّهم أصحاب وطنٍ مميّز ومتميّز عمّا حوله، وله خصوصيّة وجدت له وفي رأسها الحريّة. تلك قناعة ما عادت تستقيم في ظلّ مناخ يسوده الكثير من حرية التعبير والارتجالية والشتائم التي يمكن توليفها مع الفوضى والقليل النادر من الديمقراطية.

لن أخرج مع القارئ في نزهة من التجنّي أو النقد الجارح، أوّلاً لأنّ مجرى هذا الحبر سيصبّ في الخليج وتحديداً في دبي، ولست بحاجةٍ لأن أقف دوماً متحيّزاً إلى هذه التجربة الحضارية التي تجعل بعض الوجوه الجرداء تتبرّم من حولي وتنتقد موضوعيتي في عقد المقارنات الوطنية بين الأشقاء، وثانياً لأنّ تسلسل الأجيال من الشباب وتحرّكهم بين بيروت والخليج يولّد بالمقارنة أو يخرّج بالتجربة أعداداً هائلة منهم «سفراء» عفويين وطبيعيين من دون أن يقدّموا أوراق اعتمادهم لأحد سوى لعقولهم واستنتاجاتهم وذكائهم وقدرتهم على التفريق بين ما يكابده أهلوهم في وطنهم الأمّ لبنان، وما ينعمون به من وفرة واحترام ومثابرة واهتمام ونتائج في بلدان الخليج.

لست بحاجة إلى الجهود في الإقناع: يكفيك أن ترى غضب الأولاد والأحفاد الوافدين في عطلاتهم نحو بيروت من أصدقائهم وأقاربهم إذ يرون واحداً من هؤلاء يرمي ما بين يديه من نوافذ السيّارة أو يسير بعربته عكس السير أو لا يقف على إشارات السير الحمراء في الساحات والشوارع. لا يعود التوبيخ والتعييب والتعيير والنقد يتوقّف.

أمس، قال الشاب لصديقه: أنزلني هنا ما عدت قادراً على العيش بينكم في لبنان. سأختزل إقامتي وها أنا عائد نحو عملي في الخليج. كان السبب ركن صديقه لسيارته فوق الرصيف وأمام دكّانٍ لرجلٍ مسترزق هرم أهين عند اعتراضه ، وهو ينتظر في دكّانه منذ دهرٍ عتيق. يستطرد الشاب في التعبير عن ضيقه وعصبيته حيال تلك المفارقات الهائلة المتراكمة إلى حدود الأساطير في حياة اللبنانيين.

قال إنّ أكثر ما يغيظه تلك الحفلات من الشتائم والفضائح والملفّات والتفسّخات التي تعصف بحياة مواطنيه في بلده الأم لبنان الذي كما قال لم تهبط فيه السقوف القانونية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية وحسب، بل إنّ الجدران انهالت وصرتم وكأنكم تعيشون في خيمة. ما أحلى الخيم. أنتم تعيشون في ساحة مفتوحة فالتة على العالم لكنّها أقسى بفوضاها وتعقيداتها من السجن الكبير. وعندما حاولت تفهّمه ومسايرته وتطييب خاطره وردود فعله، أجاب بحزم:

صدّقوني. أحاول أن أمكث الليل مع أهلي أمام شاشات التلفزة، ولكنّني لم أتمكن من هضم الخطب السياسة وبرامج الشاشات. ولأنني بتّ أخاف من الخروج في السهرات الليلية ومخاطرها المتنوعة كونها تبدأ وفقاً للتقويم اللبناني عند منتصف الليل، آليت على نفسي اللجوء باكراً إلى النوم، وها إنّني مغادر غداً لأقضي ما تبقّى لي من إجازتي في الخليج.

جاء كلام هذا المغترب القريب كما تفّاحة نيوتن فوق رأسي. جرحتني بل فجّت رأسي ودفعتني لتلطيف ما سمعت والذي لا يمكن اختصاره في نص، وخصوصاً على مستوى الفوضى التي تعصف بغابة من الشاشات التي تنافس السياسات وتسبقها وتطوّعها حتّى تمّحي الحدود والضوابط والقوانين والأنظمة.

عندما فكّر الفرنسيون منذ عقود باستحداث قناة ثانية للتلفزيون الفرنسي الرسمي، تساءل الرأي العام الفرنسي: لماذا؟ فجاء جواب الدولة بأن اليابان لديها 11 قناة، وأمريكا تسع، ونحن نملك واحدة. واعترض الفرنسيون على اتباع سياسة الآخرين معتبرين بأن لديهم ما يكفي من البرامج. وعندما استفتوا حول إمكانية زيادة ساعات البث، قالوا: لا. الزيادة ليست ضرورية. وكانت نسبة القابلين ببرامج القناة الأولى 82 %. هكذا بقيت القناة الثانية وقتاً طويلاً قبل أن تجد جمهورها. بالمقابل، يعتبر انتقال لبنان بدءاً من العام 1985 حتى العام 1991 مستوعباً هذا العدد الهائل من المحطات التلفزيونية والمنابر المتعدّدة بدلاً من محطة واحدة هي «شركة تلفزيون لبنان»، وفي فترة زمنية قصيرة، دليلاً كبيراً على عظم الفوضى وضياع اللبنانيين في اختلاط الخاص بالعام في البحث عن مكامن الدفاع الوطني اللبناني. لندخل معاً إلى هذه الشاشات لبنان خلال العامين الفائتين. ماذا نجد غير المغاور والملفّات المخجلة.

ماذا بقي من تلفزيون لبنان الرسمي بعدما تخلّت الدولة عن حقوقها في امتلاك البث الفضائي إلى القطاع الخاص في العام 1985 مع أنّ تلك الحقوق كانت ملكاً رسمياً حتى نهاية ال2012. كان تلفزيون لبنان مخزناً لذاكرة لبنان والعرب ببرامجه المشرقة في الشرق، وسرعان ما نهب فتشظّى بين الطوائف والمذاهب وكاد ينساه المشاهدون.

ماذا كانت النتيجة ولبنان من ملف إلى آخر؟

إرباك وتبرير وتعمية هائلة في ردود فعل المسؤولين وطائفية لا حدود لها في حماية الفاسدين وطمس الحقائق مع التكرار المملّ للخطاب الرسمي:

- متابعة الملفّ حتّى النهاية. - نتعامل مع الملفّات بكلّ مسؤولية. - سيتمّ رفع الغطاء عن كلّ الفاسدين - إقامة دولة العدالة والقضاء على الفاسدين. - عدم لفلفة الموضوع.