هذه المرة، ايضاً، تجد نفسك وحدك. وحدك جداً. مرة أخرى تجد نفسك عاجزاً عن أن تقرر ما إذا كنت تستطيب هذه الوحدة، أو تقبلها مكرهاً.

ويزداد عجزك في مواجهة حرارتك المرتفعة حمى: فتارة تتألم مع المتنبي وقد تغلغلت الحمى في بُردائه، فراح يتلوى ويبدع واحدة من عيون الشعر العربي... وطوراً تراك تتحامل على ذاتك، فتتوجه الى مكتبتك، وتستل من اضلاعها ديوان «ازهار الشر» وتقرأ فيه رائعة شارل بودلير: «في الساعة الواحدة صباحاً». ومن دون أن تدري تراك تلجأ الى القلم والورقة، وتعرّب قصيدة بودلير:

«أخيراً! لوحدي!

أخيراً! ولبضع ساعات معي السكوت، إن لم تكن الراحة.

أخيراً! الوجوه السفاحة إختفت، ولم أتألم إلاّ بنفسي.

أخيراً! سيُسمح لي أن أنزلق في مغطس من الظلمات.

قبل كل شيء، برمتان في القفل لأنه يبدو لي أن ذلك يزيدني وحدة، ويقوي الحواجز التي تفصلني حالياً عن العالم...

كل شيء يزعجني. أزعج حالي... لقد أحببت أن أشتري كبريائي في صمت الليل ووحدته.

يا أرواح الذين أحبهم.

يا أرواح الذين غنيتهم.

أيتها الأرواح: قوّيني. اسنديني. ابعدي عني الكذب والإثم، وأبخرة العالم الوسخة (…)».

وتضع بودلير الرائع جانباً. فقد رافقك طول الليل ونجح في أن ينسيك ألمك حيث لم تفلح عقاقير وأدواء. ثم لا يلبث ألمك أن يعود أكبر وأوجع مع كل ما يعانيه الوطن الصغير المعذب، ومع كل معلم من معالم الحضارة ينهار تحت دكّ مدافع وصواريخ الجهل والحقد والأنانية والتخلف.

وتنشأ بينك وبين الوطن الحبيب علاقة لست تدري ما هي: فإذا جروحه جروحك. وإذا آلامه آلامك. وإذا أنت تذوب فيه ويذوب فيك. وتلك حال، من العشق، نادرة.

ثم تكون الصحف قد استلقت على بابك. وتبحث عبثاً عن الخبر المتكامل، فتلجأ الى الصفحات «الثقافية» و»الفكرية»! فتصدمك الضحالة. وتؤذيك السطحية، وتفجعك أمية هذا «الأديب»، وتفاهة ذاك «الكاتب»، وسفسطائية ذلك «المفكر» وتوجعك «خوشبوشية»، «المبدعين» مع اللغة: فلا مجرّد فهم لفلسفة اللغة، ولا مجرد إلمام بقواعد الصرف والنحو، ولا علاقة أو تفاهم مع البيان والتبيين. أما الفصاحة والبلاغة فـ «دقّ قديم».

وعندما يرن جرس الهاتف، وتأنس الى صوتها الدافىء الحبيب الآتي من بعيد، تدرك جيداً أن الوحدة قد تتبدد أمام الكلمات الحبيبة الدافئة، وإن لحظة سعادة، ولو عبر الهاتف، تمحو آلام الدهر.