في الشكل ثمة جمعية مرة، و»شبان الحيّ» مرة والتيار الوطني الحر مرات، أما في المضمون فهناك القوات اللبنانية وحدها. لا أحد يراها أو يسمع لها موقف، لكن ملائكتها حاضرة دائماً وهي المستفيد الوحيد من كل ما يحصل.

فبعيد تكفل التيار العونيّ بتبييض صفحة القوات ومحاولته محو آثامها بحق مجتمعها أولاً خلال الحرب الأهلية، ها هي المعزوفة تصدح من هنا وهناك عن تقصير الدولة و»يا محلا أيام الحرب» و»الأمن الذاتي» وغيرها من «الدرر». وللأمن الذاتي عنوان وحيد بطبيعة الحال هو معراب، لا منزل النائب جيلبرت زوين أو زميلها وليد الخوري وغيرهما من نواب التغيير والإصلاح. فهذا وذاك ممن يملؤون المواقع الافتراضية ببهلوانياتهم يسعهم «الحكي». لكن حين تقع المشكلة أو «حين يدق الخطر على الباب»، وفق بروبغندا القوات، لن يكون هناك أحد مجهز وينظم ويسلح غير القوات اللبنانية طبعاً. فرغم إجماع أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية على تفاقم الضغط الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي للنازحين السوريين في طرابلس فعكار، هناك من يبالغ في التحريض على السوريين في جبل لبنان وزحلة وجزين. ومن دون أن ينكشف المصدر الحقيقيّ للشائعات، تنتشر يومياً عشرات الأكاذيب التي تتضخم وتتناقل بسرعة هائلة. ففي بلد يتجاوز فيه معدل السرقات اليومية الخمسين، يكفي أن يقبض على سارق سوريّ الجنسية من أصل خمسين ليندفع كثيرون إلى القول إن جميع السوريين سارقون. وفي بلد، يتجاوز فيه معدل حالات التحرش والاغتصاب اليومية المصرَّح عنها العشرة، يكفي أن تتخيل إحدى الفتيات أن المتحرش بها سوريّ لتخرب الدنيا ويندفع كثيرون قائلين إن جميع السوريين مغتصبون ومتحرشون. ورغم تعدد الأزمات والعناوين الاقتصادية والاجتماعية الصالحة للتعبئة لا يجد بعض الأحزاب والزعماء شيئاً يفعلونه سوى تحميل اللاجئ السوري كل البلاء: شركة سوكلين كانت تقوم بواجبها لناحية جمع النفايات وفرزها، لكن بعد تضاعف عدد المقيمين في البلد بحكم المليون ونصف المليون لاجئ سوري، تضاعف حجم القمامة أيضاً وتجاوز قدرة سوكلين على الجمع والفرز وباتت الشركة تخسر. وعليه ينبغي التضامن مع «سوكلين» ولعن اللاجئين ونفاياتهم. أما المدرسة الرسمية فكانت بألف خير حتى أتاها اللاجئون بعد الظهر فباتت الطاولة تستخدم من قبل تلميذين بدل التلميذ الواحد، وحدثوا دون حرج عن الحمامات والملاعب والطابات وغيرها. علماً أن الزحمة في جونية مثلاً أزمة طارئة يسببها العمال المجتمعون في «بورة» بجانب الطريق أو سيارات النازحين لا شيء آخر. أما أزمة التفاح فسببها الرئيسي عدم قيام الجمعيات المعنية بدعم اللاجئين بشراء الإنتاج اللبناني من التفاح. وما على المزارعين بالتالي سوى صبّ جام غضبهم على النازحين السورين والجمعيات المعنية بإغاثتهم. هناك نفور لدى بعض اللبنانيين تجاه جيرانهم أسوة بكل الجيران في العالم، صحيح. لكن ثمة مبالغة تثير الشك والريبة هذه الأيام. هناك من يتقصد يوماً تلو الآخر وضع إصبعه في جراح السوريين النازحين. هناك من يعتقد أن العائلات السورية مسرورة بمغادرة قراها ومنازلها وأراضٍ تملكها ووظائف ومدارس و... من أجل السكن في خيمة عند قارعة الأوتوستراد. هناك من لا يميز بين سوريّ وآخر ويفترض كل نقاش من هذا النوع رفاهية في غير وقتها. هناك من يقرع لأسباب مجهولة طبول الحرب، دون تقديم أي بديل أو حلول. ثمة مجتمع يقول للسوريين: ارحلوا أو نبيدكم، وهم لا يستطيعون الرحيل. لماذا؟ لا أحد يعلم. ومن المستفيد؟ لا أحد يعلم أيضاً. الأكيد أن الأقساط المخيفة في المدارس والجامعات الخاصة لا يتحمل مسؤوليتها النازح السوري. الجريمة في لبنان لا يتحمل مسؤوليتها النازح السوري، وكذلك ارتفاع أسعار العقارات وانعدام فرص العمل وعدم تصريف الإنتاج الزراعي وغيره الكثير. الفواتير الوهمية وتلك المضخمة في مجلس الإنماء والإعمار والتمديد للمجلس النيابي والفراغ الرئاسي والتمديد للمسؤولين الأمنيين لا يتحمل مسؤوليته النازح السوري طبعاً، لكن لا أحد يسمع. هناك من يريد شغل أنظار اللبنانيين، عن كل ما يحيط بهم، بهذا النازح الذي لا يعلم كيف انتهى به الأمر هنا. وهناك من يستر كل تقصيره بهذا النازح، فيعيد تعبئة من فقدوا ثقتهم به عبر التحريض الرخيص.

ما حصل في نهاية الأسبوع الماضي في زحلة كان أكثر من معبِّر ومخيف. فقد اعتدى شاب يعتقد أنه «قد يكون سوريّ الجنسية» على صبية زحلية، ما كان منها سوى الدفاع عن نفسها. ورغم أن أرقام وزارة الداخلية غير الرسمية تشير إلى حصول بين خمسة وعشرة اعتداءات مماثلة وأكثر وحشية في زحلة ومحيطها شهرياً أبطالها لبنانيون، اندلعت فجأة على مواقع التواصل الاجتماعي حملة تحريض هائلة تطالب بـ «تحرير زحلة» ممن يمكن أن «يسرقوا المنازل ويعتدوا على الأعراض ما لم نضعهم عند حدهم». وهبّت النخوة؛ هنا تطالب بالأمن الذاتي بعد «فشل القوى الأمنية والجيش» لأن «شباب الأمن الذاتي» لم ينشطوا خمسة عشر عاماً في اغتصاب الأبرياء وسرقة المنازل وربطات الخبز؛ وهنا تدعو إلى تلقين «مجموعة صغيرة» درساً ليتعظ الآخرون. وفي ظل الغوغاء الشعبية وركض السياسيين خلف المواقف الشعبوية كان يمكن أي انفعال إضافي أن يوصل التوتر إلى حالة الانفجار الكامل. علماً أن المليون ونصف المليون سوري ما زالوا جميعاً يضبطون أنفسهم ولا يبالون بالإهانات اليومية الكثيرة، لكن يوماً ما ــ قد لا يكون بعيداً ــ سيرفع أحد الناجين من الحرب السورية عينيه ويقول لمهينه أن «يحلّ عنه» فتتدحرج كرة النار. والمشكلة الرئيسية هنا تكمن في اعتقاد بعض الأشاوس أنهم ربحوا حرب زحلة وحرب الأشرفية وكل الحروب الأخرى التي هدت مناطق وقضت على مئات الشباب وهجرت عائلات برمتها وكانت السبب في اختلال الموازين الديموغرافية والاقتصادية في البلد وهم يجاهرون باستعدادهم لتكرار مآثرهم إن تطلب الأمر ذلك. هؤلاء يشمّرون عن زنودهم مفاخرين بأنهم جاهزون إذا دق الخطر على الأبواب. أما المحذرون من خطورة ما يحصل، فهم مجرد عملاء لـ»الغريب»، لا يريدون إزعاجه في استيلائه على البلد. والمطلوب في الخلاصة تحرك فاعل وجدي من أجل وقف ما يحصل؛ إلا إذا كانت الفعاليات المدنية ومن يفترض التعويل عليهم يعتقدون أن ما ينقص مناطقهم هو جبهات مفتوحة وحملات إبادة والميليشيات من جديد؛ علماً أن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، كان يوحي أنه تعقل بهذا الخصوص وتراجع خطوات إلى الوراء ليتأكد اليوم أن الطبع ينتصر على التطبع كالعادة، ولا بد في عرف القوات من تخويف المواطنين لمواكبة تقدمهم السياسيّ الملحوظ بإمساك أمنيّ ــ عسكريّ بهذا التقدم.