لم يكن مؤتمر غروزني الذي عقد في الشيشان بداية الصراع بين المذاهب التقليدية والصوفية وبين الوهابية، بل هو صراع قديم قدم الدعوة الوهابية، فمنذ البدايات الأولى في الدرعية –القرن السادس عشر- أعلن محمد بن عبد الوهاب موقفه الصريح من الطرق الصوفيّة، واعتبرها بدعاً وكفرًا ولا تجوز شرعا حسب قوله، وقد خاضت الوهابيّة منذ نشأتها حروبا دموية وشرسة ضد الفرق والطرق الصوفية في الجزيرة العربية، وقد اعتنق عبد الوهاب افكار ابن تيمية وتفسيره للمذهب الحنبلي، وقد عارض المذهب السنّي الرسمي للعثمانيين وهو الحنفي، وكان من أول من نادى بتكفير الأمة، فقد اعتبر أهل الجزيرة العربية غير المنتمين له من الكفّار، ولذلك فمن الجائز حسب رأيه محاربتهم وغزوهم، ومن هنا كان توسّع الدرعية واحتلالها للمناطق المحيطة بها في مرحلة الدولة السعودية الاولى.

وفي مرحلة حكم محمد علي في مصر كانت المواجهة الأكبر بين الوهابية التي عادت لتتحول الى قوة كبيرة من جديد في الجزيرة العربية، وقد استمرت الحرب حتى سنة 1818 حيث استطاع المصريون القضاء على الحكم الوهابي والسيطرة إلى فترة على الجزيرة وانهاء الدولة السعودية الاولى، حيث برز الصراع الاول بين القطبين الكبيرين في العالم الاسلامي، مصر والسعودية.

في كل هذه الحروب كان للدين والدعوات المذهبية الدور الكبير في تجييش الناس وحضهم على القتال ضد بعضهم البعض، خاصة الوهابيّة التي اعتمدت كثيرا على التحريض الديني المتطرف، لكن في خلفية المشهد وحقيقة الصراع على مستوى الحكام فقد كانت معركة سياسيّة تهدف الى تحقيق مكاسب اقتصادية وتحديد مناطق نفوذ للقوى المتصارعة، أكثر منها بهدف الذود عن الدين الحنيف كما كان يدعي الفريقان.

وبالتالي فإن هذا الصراع من أساسه ومنذ نشاته صراع ذو وجهين، ديني عقائدي بين تيار يدّعي التجديد وإعادة الاسلام إلى أصوله ومنابعه الاساسية معتمدا التكفير والمواجهة المباشرة، وبين مذاهب مستقرّة لها امتدادها التراثي والفكري وتجذّرها في الوجدان الشعبي.

السُنّة والجماعة

أقر مؤتمر غروزني أن أهل السنة والجماعة "الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علمًا وأخلاقًا وتزكيةً"، وبالتالي فقد رفض ضمنا كل من لا ينتمي الى هذه المذاهب من أنْ يكون ضمن الجماعة من أهل السنة، وبشكل أساسي الوهابية وما تفرع عنها ممّن يُسمَّون بالسلفية أو الحركات الجهادية.

الأشاعرة وهم الفئة الاكثر انتشارا في العالم الإسلامي فرقة من أهل السنّة ينتمون الى الإمام أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري وهو شافعي المذهب وإن كان هذا لا يلزم كل الأشاعرة اليوم أنْ يكونوا على المذهب الشافعي.

أما الماتريديّة وهي فرقة من اهل السنّة تشكّل مع الأشاعرة القسم الأكبر من المجتمع الإسلامي، وتنسب الى أبي منصور الماتريدي الذي عاصر ابو الحسن الاشعري–القرن الثاني الهجري، إلا انها لم تتبلور كفِرقٍ حتى القرن الرابع الهجري.

المذاهب الاربعة تُنسب إلى الأئمّة الأربعة الكبار الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي، وهذا ما هو عليه عامتهم، وقد تفرع متأخرا عن الحنابلة ابن تيمية الذي أعاد تفسير المذهب الحنبلي كما فَهِمَه، وإليه استند محمد بن عبد الوهاب لنشر دعوته في الجزيرة العربيّة والتي عُرفت في يومنا هذا بالوهابية، أما مصطلح السلفيّة، فهو في أساسه يصف كلّ من اتّبع السلف الصالح من القرون الاولى واسترشد بهم وهم عامة المسلمين من أهل السنة في الأساس، إلا أنّ التسمية الحديثة تقتصر على الجماعات المنشقة عن الوهابية، والتي اعتمدت مقاربات أكثر تطرّفًا في المعتقد والممارسة، منها السلفية الجهاديّة، وغير ذلك من فرق تعتمد العنف المباشر، او العنف الفكري من تكفير الأمّة كما في حالة "داعش".

مقررات غروزني

وفي العودة الى الجدل الكبير الذي دار بعد مقررات مؤتمر الشيشان، فلا بدّ من التوقف عند عدد من المعطيات الأساسيّة لتوضيح الصورة الكاملة، حيث ان المقررات خاصة التي حَدّدَتْ من هم أهل السنّة والجماعة لا تقتصر فقط على الجانب الفقهي العقائدي، بل تتداخل فيها الجوانب السياسيّة والصراعات الكبيرة التي تدور في المنطقة.

إنّ رمزية المكان الذي عقد فيه المؤتمر في دولة تابعة للاتحاد الروسي، المتورّط أساسًا في الصراع القائم في المنطقة، إنْ كان بشكل غير مباشر مع السعوديّة، أو بالحرب السورية التي يشارك فيها بشكل فعّال ومباشر، تشكّل علامات استفهام سياسيّة عن التوقيت والمكان الذي صدر منه القرار.

من جهةٍ أخرى لا بدّ من ملاحظة الحضور الكبير والكثيف لرجال الدين السنّة من مختلف انحاء العالم الاسلامي، وهو ما يشير ايضا الى التذمّر الموجود لدى كل هذه المقامات الدينية من الممارسات والنتائج التي وصلت إليها الحركة الوهابية والسعودية، والتي تؤثّر بشكل مباشر في صورة الإسلام لدى الجيل الناشئ من الشباب في المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة، أضف إلى ذلك كل تلك الصراعات والحروب التي تجتاح الدول العربية والاسلاميّة وتمزقها.

ولا بد من التوقف كذلك أمام التمثيل الديني الكبير لمصر، إن كان من خلال حضور ورعاية شيخ الأزهر أحمد الطيّب، أو من خلال حضور كبار العلماء المصريين المعروفين مثل الشيخ علي جمعة والشيخ علي الجفري والشيخ أسامة الأزهري وغيرهم... ولهذا الحضور رمزيّة لما يمثّل الأزهر في التاريخ الإسلامي كمرجعيّة ومدرسة كبيرة لها تأثيرها، وللقرار الأزهريّ الذي غاب لفترة عن لعب دوره بالعودة الى الساحة الاسلامية من خلال هويته الاساس كمرجع كبير للفرق الصوفيّة التقليديّة وكجامع وموحّد للسنّة في العالم، ولا يخفى على أحد أن حربا شُنّتْ على الأزهر في العقود الماضية لتغييب دوره وتهميشه لصالح الحركات والفرق الإسلامية الراديكالية والمتطرفة.

الصوفيّة وأهل السنّة والجماعة اليوم يردّون على الوهابيّة التي كفّرتهم لعقود، ويوضحون رأيهم ومعتقدهم ولو أتى متاخرا، ومما لا شكّ فيه أن الظروف السياسيّة والاقليميّة وحتى الدوليّة لعبت دورا باتخاذ هذه القرارات الآن، لكن الواقع أنّ الصراع العقائدي لم يغب يومًا وإنْ استكان او خفت صوته لفترة تحت تأثير الضعف او المال او السلطة. الصوفيّة تسترد ما لها لكنها تفتح بابًا للصراع قد يصعب إقفاله ولا تعرف نتائجه، خصوصًا في ظل ما تشهده المنطقة اليوم من تصاعد للتطرّف على حساب الفكر المتنوّر والمعتدل.

* استاذ جامعي ومتخصص في الحركات الاسلامية