أنظر اليوم بحسرة كبيرة إلى غياب الحركة الدستورية في البلاد، وتحديداً غياب التشريع النيابي، آخذاً بعين الاعتبار تشريعات الضرورة مؤخراً، وهي تسمية جديدة تمّ اختراعها. ولا بدّ من التذكير بأنّ المجلس النيابي هو السلطة الأساسية والأداة الأساسية في بناء المجتمع وتطويره ومواكبة ما يجري عالمياً من تطوّر وتحديث وتحسين على كلّ المستويات.

وأفهم لوعة الحريصين على غياب دور هذا المجلس الذي يحدّد النظم الاجتماعية التي تحدّد العلاقة بين الإنسان والمجتمع أيّ القوانين، إلا أنني أودّ أن أغوص أكثر في دور هذا المجلس وأدائه على مدى السنوات الماضية، وحتى قبل تأزّم الحالة السياسية والشلل الحاصل في البلاد اليوم.

فخلال متابعتي لعمل المجلس وتحديداً في مجال التشريع الضرائبي، لاحظت الكثير من الخلل في هذا السياق، ولتوضيح الموضوع فقد نصت المادة 81 من الدستور على أن «تفرض الضرائب لأجل المنفعة العمومية، ولا يجوز إحداث ضريبة وجبايتها في الجمهورية اللبنانية إلا بموجب قانون شامل تطبّق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانية من دون استثناء». ونصت المادة 82 من الدستور على أن «لا يجوز تعديل ضريبة أو إلغاؤها إلا بقانون». وبالتالي فإنّ دور السلطة التشريعية في تحديد وفرض أيّ ضريبة هو دور «مقدس» اذ يعود لممثلي الشعب الحقيقيين أن يفرضوا الشكل الاقتصادي للدولة، وقد يحدث أن يفوّض مجلس النواب حق التشريع الجمركي الى الحكومة لأسباب معروفة.

وإذا نظرنا اليوم إلى كمّ الضرائب أو ما يسمّى الرسوم غير المباشرة المفروضة تارة تحت تسمية رسوم، وتارة تحت تسميات أخرى، نرى أنّ المجلس النيابي ربما قد يكون تنازل عن جزء من حقه بأن يكون المقرّر الوحيد في شكل الضرائب المفروضة على الشعب اللبناني. والأهمّ من ذلك يتمّ فرض ضرائب مستترة وراء تسمية الرسوم. وهي في الواقع ضرائب سيادية يُحصر حق فرضها بالمجلس النيابي فقط.

وقد شهدت السنوات الأخيرة زيادات كبيرة في الضرائب غير المباشرة والرسوم التي يقع عبؤها الضريبي على الفئات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود. الرسوم على تسجيل السيارات وقد تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من الرسم الجمركي خاصة على الفانات، رسوم مرفأ بيروت، الرسوم لصالح صناديق التعاضد ولصالح النقابات وتعرفة الطاقة الكهربائية أو مثلاً زيادات على بطاقات السفر وإطلاق تسمية ضرائب على زيادة المحروقات fuel surcharge، وفي الواقع هذه الزيادات غير مرتبطة بأسعار المحروقات بل هي ضرائب تفرض على المواطن والمستفيد ليس الدولة، إنّ جميع الرسوم المفروضة والتي تتجاوز قيمتها سعر الكلفة هي في حقيقتها ضرائب غير مباشرة.

فمثلاً رسوم تسجيل السيارات، والتي سمّيت رسوماً وهي في الحقيقة ضرائب تفرض على سعر السيارات، ومن غير الواضح كيف يتمّ تحديد قيمة السيارة وخاصة السيارات المستعملة مما يفتح الباب أمام الاستنساب والسمسرات وجرّ المواطن الى دفع مبالغ غير منطقية. وهنا لا بدّ من التذكير بأنه لا يجوز في علم الضرائب فرض عدة ضرائب على السلعة نفسها لأنّ هذا الأسلوب احتيالي وغير فعّال وكلفة جبايته مرتفعة وخاصة اذا كانت تخضع للاستنسابية.

رسوم المرفأ والتي تحدّدها ما يسمّى باللجنة الموقتة لإدارة مرفأ بيروت ووصاية وزير النقل، وهي ضرائب سيادية بامتياز إذ تحدّد على أساس نوع البضاعة. وهي ضرائب لا تدخل الى خزينة الدولة، أعرف أنه من الصعب على القارئ أن يصدق ولكن هذا هو الواقع!

الرسوم والتعرفة التي تتقاضاها مؤسسة كهرباء لبنان، تتضمّن ما يُعرف برسم التأهيل، علماً أنه لا توجد خطة تأهيل مربوطة بهذه المبالغ، وبالتالي فإنّ هذا الرسم بات يعتبر ضريبة يدفعها المواطن من دون أن تمرّ بمجلس النواب، كما إيجار العداد ورسوم التركيب وغيرها كلها لم تمرّ على مجلس النواب.

إذا أتينا على رسوم البلديات ورغم أنها مفروضة بالقانون إلا انه بات من غير الواضح كيفية تحديدها وخاصة في موضوع التخمين العقاري والقيم التأجيرية الخاضعة للاستنساب.

إذا احتسبنا اليوم قيمة هذه الرسوم نلاحظ انّ قيمة الضريبة على القيمة المضافة في لبنان ليست 10 بالمئة، مع وجود رسوم من هنا وهناك، فمثلاً رسوم المرفأ التي تطال كلّ المستوردات تزيد على أسعار السلع المستوردة أكثر من 1 على كلفتها، أضف الى ذلك تكاليف التخليص والتي تصل أيضاً الى أكثر من 1 فتكون الـ TVA على المستوردات بالواقع أكثر من 12 ، 2 منها للمحاسيب.

علماً أن التهرّب الضريبي اليوم والفوضى ينقصان من فعالية هذه الضريبة ويجب اعتماد إجراءات جديدة بالنسبة للـ TVA، فمن غير المقبول استمرار السماح بعدم إدخال الشركات التي لا يزيد حجم عملها عن الـ100.000 دولار في الـ TVA، ويجب تخفيض السقف الى 10.000 دولار، كما منع أية شركة غير مسجلة في الـ TVA من استيراد بضائع بكميات تجارية. بالإضافة إلى التهرّب من الـ TVA، حيث إنّ نحو 50 في المئة من العمليات التجارية هي خارج منظومة الـ TVA اليوم ،حسب ما جاء في تقارير دولية.

مثال آخر على الضرائب التي تفرض بطريقة غير مباشرة هو ما جرى أخيراً من خلال مناقصة الميكانيك، حيث فرضت تعرفات بطريقة غير مفهومة، مما يشكل عبئاً على المواطن، والأغرب أنّ المطالبة اليوم بإعادة فحص الميكانيك إلى كنف الدولة رغم الحقيقة الواضحة بأنّ القطاع العام هو من أسوأ الإدارات، بحسب التجربة حتى اليوم. كما مستغربة المطالبة باستمرار الاحتكار في هذا القطاع بدلاً من تحريره والسماح لمراكز متخصّصة بالقيام بالمعاينة الميكانيكية كما هو حاصل في بلدان عدة.

وبالتالي يبدو من الواضح انّ العديد من المؤسسات العامة واللجان المؤقتة باتت أقوى من السلطة التشريعية في لبنان، حيث تحدّد الرسوم بموافقة وزير الوصاية دون العودة الى السلطة التشريعية. وبالتالي تتنازل السلطة التشريعية يوماً بعد يوم عن حقها الأساسي في السيطرة ومراقبة التشريع الضريبي وأثر هذه الضرائب على الاقتصاد والمواطن والاستثمار. والأهمّ هو النسبة الحقيقية للضرائب في لبنان، فحتى البنك الدولي كان عاجزاً عن تحديد نسب الضرائب غير المباشرة بسبب اللجوء الى الاحتيال في فرض ضرائب عدة على السلعة نفسها أو الخدمة نفسها.

بالاضافة إلى ذلك تنازل مجلس النواب اليوم عن حقه أيضاً في السيطرة على العديد من القطاعات عبر إخضاعها للضريبة وقوننتها، إنْ من خلال المقالع والكسارات التي لا تزال تُعطى بمهل إدارية ورسوم هزيلة، الأملاك البحرية، ألعاب القمار الالكترونية، السلاح الفردي المستورد من خلال التهريب، وغيرها الكثير من الأوجه الاقتصادية التي باتت بين أيدي مجموعة من السماسرة والانتهازيين والمهرّبين، ولا تخضع لأيّ ضرائب تذكر.

أخيراً لا بدّ من التذكير بمبدأ شمولية الموازنة وعشرات الرسوم التي تجبيها صناديق تعاضد ونقابات وحتى أجهزة أمنية وشركات خاصة تربط معاملات رسمية بدفع مبالغ مثلاً شركات الملاحة ووكلاء البواخر يفرضون إذن تسليم بدونه لا تستطيع تخليص البضائع المستوردة، علماً أنك تكون حاصلاً على بوليصة شحن أصلية وهي سند ملكية للبضائع، تأتي الشركات وتفرض اذن تسليم ومصاريف FIO هي ضعف الرسوم التي تدفعها لمرفأ بيروت، وهذا يتمّ بالتواطؤ مع مرفأ بيروت الذي يمتنع عن تسليم البضائع دون إبراز اذن تسليم ودفع FIO، وهذه ضريبة في الواقع، وهل يجوز زيادة نسب أرباح على الرسوم تصل الى أكثر من الرسوم؟ وأما شركات البريد السريع فلا تسلّم الطرد الى صاحبه إلا بعد فرض أكلاف تخليص هي أضعاف الرسوم المفروضة، فجباية رسوم هنا تكلف المواطن أكثر بكثير من الرسم، فكيف تفسّر شمولية الموازنة مع وجود هذا الكمّ من الرسوم غير الصادرة بقوانين او صادرة بالأساس بقوانين، ولكن يتمّ رفعها دون العودة الى المجلس النيابي كرسوم نقابة المهندسين مثلاً، وعشرات الرسوم المفروضة عن طريق الاحتيال على الدستور وعلى المجلس النيابي.

يجب على المجلس النيابي أن يستعيد دوره الأساسي في رسم السياسات الضريبية والمراقبة، وفي تحليل تأثير هذه الضرائب على الحركة الاقتصادية وبيئة الاستثمار. فاستمرار الوضع على ما هو عليه من تخبّط وفلتان ضرائبي لن يزيد عائدات الدولة وسيراكم العجز العام ويشجع الفساد والسمسرة، وخرق سيادة الدولة. فإلى كلّ الحريصين والغيورين على دور المجلس النيابي، إن هذا هو الدور الأساسي للمجلس، ولا يقتصر دوره على مطالب سياسية تناسب هذا الفريق أو ذاك!