تكثّفت في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية التحرّكات على الأرض من قبل أهالي موقوفين ومحكومين بجرائم مُختلفة في لبنان، لمُطالبة السلطة بعفو يُخرج المسجونين من زنزاناتهم ويُوقف المُلاحقات القضائية عن المطلوبين. فهل فعلاً سيَصدر قانون عفو في المُستقبل القريب، ومن هي الفئات التي ستستفيد منه، ومن هي الفئات التي سيتم إستثناؤها؟

بداية لا بُدّ من التذكير أنّ السُلطات المعنيّة في لبنان أصدرت قوانين عفو من الفئتين العام والخاص، أكثر من مرّة منذ الإستقلال حتى الأمس القريب، أبرزها القانون رقم 84/91 بتاريخ 26/8/1991 والذي جاء بعد إنتهاء الحرب اللبنانيّة(1)، وآخرها صدر في العام 2005(2)، علمًا أنّ قوانين العفو تنقسم إلى عفو عام(3)وعفو خاص(4). وبالتالي، إنّ صدور قانون عفو لن يُشكّل سابقة في لبنان، لكن اليوم تُوجد العديد من العراقيل تتداخل فيها كل من المخاوف الأمنيّة، والعراقيل السياسيّة، والإعتبارات الطائفية والمذهبيّة، والأسباب المعنويّة والإنسانيّة، إلخ. وهنا من الضروري الإشارة إلى أنّ الفئات التي تُطالب بالعفو مُتعدّدة وأبرزها:

أولاً: الموقوفون في الشمال على خلفيّة الأحداث الأمنيّة ونحو 20 جولة من المُواجهات المُسلّحة التي شهدتها طرابلس بين عامي 2008 و2014، قبل أن تنتهي بخطة أمنيّة في نيسان 2014، طوت صفحة محاور القتال، ووضعت الكثير من المُشاركين بالمعارك في السجون، إضافة إلى موقوفين ومطلوبين كانوا شاركوا بمعارك مخيّم نهر البارد ضُد ​الجيش اللبناني​ بين أيّار وأيلول 2007.

ثانيًا: أكثر من 4000 مطلوب في البقاع، بنحو 35,000 مُذكّرة توقيف بجرائم سلب وسطو مُسلّح وقتل وثأر عشائري وزراعة وترويج وبيع الممنوعات والإتجار بالمُخدرات، إلخ.

ثالثًا: الموقوفون والمطلوبون بأحداث عبرا الأمنيّة التي حصلت في حزيران 2013، وما سبقها ورافقها وتبعها من إعتداءات إرهابية على مواقع وعناصر الجيش اللبناني في الجنوب.

رابعًا: الموقوفون والمطلوبون بأحداث عرسال الأمنيّة التي حصلت في آب 2014، وما سبقها ورافقها وتبعها من إعتداءات إرهابية على مواقع وعناصر الجيش اللبناني في البقاع.

خامسًا: الموقوفون والمطلوبون بتفجيري جامعي التقوى والسلام في مدينة طرابلس في آب 2013، والتي تبيّن أنّ الخليّة التنفيذية للهُجومين الإرهابيّين تضمّ خمسة أشخاص من جبل محسن.

سادسًا: الموقوفون والمطلوبون بجرائم عادية وغير سياسيّة، علمًا أنّ هؤلاء كانوا إستفادوا من إقرار مجلس النواب في آذار 2012 مشروع تخفيض السنة السجنيّة إلى تسعة أشهر بدلاً من إثني عشر شهرًا، عن كل سنة حكم.

إشارة إلى أنّ أكثر من جهة سياسيّة في لبنان تتحرّك قضائيًا وإعلاميًا وتضغط سياسيًا في واحد على الأقلّ من هذه الملفّات المذكورة أعلاه، حيث يعمل مثلاً مكتب للمحامين تابع لأحد رؤساء الوزراء السابقين على مُتابعة قضايا موقوفين إسلاميّين من الشمال مِمّن لم يتورّطوا في قتال الجيش وهو نجح في الإفراج عن نحو 70 موقوفًا منهم حتى اليوم، بينما يُعتبر الشيخ محمد إبراهيم من أبرز المُتابعين لملفّات الموقوفين الإسلاميّين عُمومًا ويدعم التحرّكات الشعبيّة لإصدار قانون عفو، علمًا أنّ ملف الإسلاميّين موضوع على طاولة هيئة العلماء في دار الفتوى. من جهة أخرى، يُتابع عدد من مسؤولي "حزب الله" قضيّة المطلوبين بمُذكرات توقيف في البقاع، وهو كثّف أخيرًا على لسان عدد من مسؤوليه المُطالبة بقانون عفو عن هؤلاء، لا سيّما أولئك المطلوبين بجرائم زراعة المُخدرات والإتجار بالممنوعات، مع التذكير أنّه في العام 1997، صدر قانون عفو عن مختلف جرائم المُخدرات المُرتكبة قبل 31/12/1995.

لكن وعلى الرغم من إرتفاع وتيرة الضغط السياسي والإعلامي، بالتزامن مع تحريك تظاهرات شعبية وإعتصامات وحتى مع القيام بعمليات قطع طرق للدفع نحو رُضوخ السُلطة السياسية لدعوات العفو، فإنّ سلسلة من المشاكل والعراقيل المُتداخلة تعترض مسألة إقرار عفو عن المسجونين والمطلوبين، وأبرزها "الخطوط الحمراء" المُتقابلة الموضوعة من قبل جهات سياسيّة عدّة.

وفي هذا السياق، يضع "التيار الوطني الحُرّ" وأهالي العسكريّين الشُهداء وغيرهم من الأطراف "فيتو" على إطلاق أيّ موقوف أو العفو عن أي متورّط بقتال الجيش اللبناني، ويضع "حزب الله" من جهته "فيتو" على إطلاق أو العفو عن الموقوفين الإسلاميّين المُتشدّدين مثل أحمد الأسير وخالد حبلص وسواهما من السلفيّين المُتشدّدين وكل اللبنانيّين الذين قاتلوا إلى جانب تنظيمي "داعش" و"النصرة" أو تعاملوا معهما، بينما يضع "تيّار المُستقبل" بدوره "فيتو" على إطلاق أو العفو عن ميشال سماحة والمتورّطين بتفجيري جامعي التقوى والسلام، إلخ. كما أنّ الأجهزة الأمنيّة الرسميّة في لبنان تعتبر أنّ الإفراج عن أيّ موقوفين مُتشدّدين سيُعيد إحياء الكثير من الشبكات الإرهابيّة التي بذلت جهودًا مضنية لتفكيكها ولإزالة خطرها عن اللبنانيّين، وسيفقد لبنان ورقة مُساومة مُهمّة لإعادة عسكريّيه المخطوفين لدى "داعش".

في الخلاصة، سنسمع الكثير عن قانون العفو في الفترة المُقبلة، لأنّ هذا الموضوع قادر على تأمين أصوات الكثير من الناخبين عشيّة الإنتخابات النيابيّة المُفترضة، وبشكل يفوق بكثير ما يؤمّنه تعبيد طريق هنا وتأمين وظيفة هناك! لكنّ النتائج ستكون مُخيّبة للكثيرين حيث أنّ هذا الملف مُرشّح للإرجاء إلى ما بعد الإنتخابات النيابيّة، ليكون على طاولة السُلطتين التشريعية والتنفيذية المُقبلتين... علمًا أنّ من قد يطالهم أيّ عفو مُحتمل في المُستقبل لن يكونوا من ضُمن أيّ خليّة إرهابيّة أو أيّ خليّة قاتلت الجيش، إنما من بين الموقوفين بجرائم عادية أو بجرائم مُخدرات وفق معايير دقيقة ومُحدّدة لا تشمل الجميع.

(1) منح هذا القانون العفو عن الجرائم المُرتكبة على إمتداد سنوات الحرب حتى تاريخ 28/3/1991، وكان سبقه قانون عفو عن الجرائم التي إرتكبت خلال أحداث 1958، ثم قانون عفو آخر عن الجرائم التي إرتكبت في العام 1967.

(2) شمل رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" سمير جعجع، والمجموعتين السلفيّتين الضالعتين في أحداث الضنّية ومجدل عنجر.

(3) ​العفو العام​ هو الذي تُصدره السلطة التشريعيّة لإزالة الصفة الجرميّة عن أيّ فعل يُمثّل جريمة يُعاقب عليها القانون اللبناني (المادة 150 عقوبات)، فيُصبح الفعل كأنّه لم يُجرّم أصلاً، وذلك بعد أن يتقدّم ما لا يقل عن 10 نواب باقتراح يُحوّل على الهيئة العامة التي تُوافق عليه أو ترفضه بالأكثريّة.

(4) العفو الخاص هو إجراء يتخذه رئيس الجُمهوريّة بعد التشاور مع لجنة العفو، ويستهدف من حُكم بصورة مبرمة في جرم مُحدّد، مع إمكان إعفائه من العقوبة بشكل كامل أو جزئي أو إبدال العقوبة المذكورة بأخرى أخفّ (المادة 152 عقوبات).