خلال مرحلة ما قبل إقرار ​قانون الانتخاب​، اهتزّت كلّ التحالفات من دون استثناء، تارةً بسبب تفصيلٍ من هنا وتارةً بسبب إصلاحٍ من هنالك، وبين الاثنين بسبب الاختلاف الشاسع في الرؤية والمقاربة للاستحقاق الانتخابي ككلّ، فضلاً عن التنافس "الشرس" على "أبوّة" المشروع-الإنجاز، وبالتالي توظيف المكاسب واستثمارها.

اليوم، ومع إقرار القانون، يمكن القول أنّ رياح التحالفات بدأت تعود إلى قواعدها تدريجيًا، إلا أنّ أحدًا لا يستطيع أن يجزم ما إذا كانت ستبقى على حالها حتى موعد الانتخابات، وهو ما بدأ بعض القوى السياسية يجاهر به صراحةً، خصوصًا أنّ كثيرين باتوا مقتنعين بأنّ المنافسة الحقيقية ستكون بين الحلفاء في اللوائح المشتركة أكثر من كونها بين الخصوم أنفسهم...

معركة الصوت التفضيليّ...

في مؤتمره الصحافي الأخير، قالها رئيس حزب "​القوات اللبنانية​" سمير جعجع بصراحة: "نحن على أعتاب مرحلة سياسية جديدة لا أستطيع من الآن أن أرسم كل معالمها، وعلينا أن ننتظر قليلاً حتى نستوعب القانون بكل تفاصيله، وعلى ضوء ذلك نبني تحالفاتنا".

لم يكن جعجع ينطلق في كلامه هذا من كون "التباينات" التي حصلت في الآونة الأخيرة بين "القوات" وبين "التيار الوطني الحر" مثلاً فعلت فعلها فأنهت مفاعيل "الثنائية المسيحية" قبل أن يحين موسم "الحصاد"، الذي كان كثيرون قد حدّدوا الانتخابات النيابية موعدًا أساسيًا له، باعتبار أنّ هذه الثنائية هدفت، من جملة ما سعت لتحقيقه، إلى اجتياح الساحة المسيحية وعزل القوى المعارضة لها، والتي صنّفت نفسها في خانة المتضرّرين منها بشكلٍ أو بآخر.

ولكنّ جعجع كان ينطلق، بكلّ بساطة، من واقع أنّ قانون الانتخاب الجديد خلط كلّ الأوراق وغيّر كلّ المفاهيم، حتى ما كان يُعتبَر مبدئيًا منها، لدرجة أنّ مفهوم "التحالف الثابت" بحدّ ذاته وُضِع موضع المساءلة والمجادلة، وربما التشكيك، وهذا الأمر مرتبط بشكلٍ مباشرٍ بالتغييرات التي يتطلبها العبور من النظام الأكثري إلى النظام النسبي في مقاربة الاستحقاق ككلّ.

فإذا كان صحيحًا أنّ قانون الانتخاب النسبيّ يحوّل المعركة، في المبدأ، إلى معركة بين لوائح، باعتبار أنّ "التشطيب" لن يكون مُتاحًا لأحد، ومن يعتمده يصبح صوته لاغيًا بكلّ بساطة، إلا أنّ الصحيح في المقابل أنّ الصوت التفضيلي، بموجب هذا القانون، "يحول المعارك من جماعية على صعيد اللوائح إلى فردية لكل مرشح على حدى" ويضرب وحدة اللوائح في الصميم، فضلاً عن كونه يكرّس بصورةٍ أو بأخرى المنافسة الطائفية المناطقية المتعارف عليها.

ومن هذا المنطلق، يصبح جائزًا القول أنّ المعركة الحقيقية لن تكون سوى معركة الصوت التفضيلي داخل اللائحة الواحدة أكثر من أيّ شيءٍ آخر، أي أنّ المعركة ستكون بين المرشحين ضمن اللائحة الواحدة على كسب أكبر قدرٍ من الأصوات التفضيليّة، طالما أنّ خرق أيّ لائحة يبقى الاحتفال الأوفر حظًاً، إلا في بعض الدوائر الصغرى التي تهيمن عليها أحزابٌ معيّنة على المشهد، لدرجة يتعذّر على لوائح أخرى تأمين العتبة الانتخابية، التي تقرَّر أن تساوي الحاصل الانتخابي، ما يعني أنّ نسبتها ستكون أيضاً متفاوتة بين منطقة وأخرى.

لا تحالفات ثابتة...

هكذا، لا يبدو مبالَغًا به القول أنّ المعركة "الفردية" داخل اللائحة الواحدة، بموجب القانون الجديد، تكاد تضاهي المعركة "الشرسة" بين اللوائح، هذا إن لم تفقها في الأهمية وفي التأثير على النتائج. ولعلّ هذا الأمر هو بالتحديد ما يعطي هذه الانتخابات بعض "الغموض البنّاء"، ويجعل التحالفات السياسية كما الانتخابية "مجمّدة" حتى إشعارٍ آخر، بانتظار اتضاح الصورة وتبلورها أكثر.

مع ذلك، فإنّه يمكن الوصول إلى استنتاجٍ بسيطٍ لا يبدو الوقت مبكراً للخروج به، وهو أن لا تحالفات ثابتة في الانتخابات بموجب هذا القانون، مع بعض الاستثناءات، وذلك لاعتباراتٍ بالجملة. فإذا أخذنا تحالف "التيار الوطني الحر" مع "حزب الله" من جهة ومع "القوات اللبنانية" من جهة ثانية، فإنّ الخلاف المبدئي بين "حزب الله" و"القوات اللبنانية" يجعل من المستحيل جمع الأطراف الثلاثة في لائحةٍ واحدةٍ، بل إنّه سيمنع تشكيل لوائح مشتركة بين "التيار" و"القوات" في المناطق التي هناك حضور للحزب فيها، إذا بقي على موقفه الرافض الالتزام بالتصويت لصالح أيّ مرشحٍ "قواتي"، لأنّه لن يكون بمقدوره تركيب لائحته الخاصة، وتشطيب المرشحين القواتيين منها، كما فعل في مدينة زحلة في الانتخابات البلدية الأخيرة، على سبيل المثال لا الحصر.

إلا أنّ الاعتبارات التي تتحكّم بالحسابات الانتخابية وتركيب اللوائح والحشد لها لن تقتصر عند هذا الحدّ، بل إنّ البعض قد لا يتردّد في التوافق على خوض المعركة في بعض الدوائر بلوائح مختلفة باعتبار ذلك "أضمن". وفي هذا السياق، هناك من يقول أنّ "مصلحة" أقطاب السنّة في مدينة طرابلس مثلاً تقضي بأن يخوضوا الانتخابات "مستقلين" عن بعضهم البعض، وليس ضمن لائحة واحدة، حتى لا يذهب أحدهم ضحيّة الصوت التفضيلي. وبحسب وجهة النظر هذه، فإنّ لا شكّ في أنّ القدرة التجييرية لهؤلاء، ولا سيما تيار المستقبل ورئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي ووزير العدل السابق أشرف ريفي، تتخطّى العتبة التمثيلية، ولا شكّ أنّ الأصوات التفضيلية ستصبّ في صالحهم بغياب المنافسة، ما يجعل أرجحيّة فوزهم بعدم التحالف أكبر منها في حال التحالف.

لكلّ هذه الأسباب، ولا سيما وجود "حسابات متناقضة" بين هذه الدائرة وتلك، ستبقى التحالفات الانتخابية مرهونة باعتبارات ربع الساعة الأخيرة، من دون أن ترتبط بشكلٍ كامل وتلقائي بالتحالفات السياسية الشاملة، علمًا أنّ بعض القوى السياسية بدأت تفكّر جديًا بـ"التحايل" على النظام، من خلال توزيع مرشحيها على أكثر من لائحة. ويبقى أنّ بروز كتلٍ سياسيّةٍ جديدةٍ من خارج الاصطفافات الحاليّة مستبعَدٌ، وهو ما حرص عليه "طبّاخو" قانون الانتخاب بالدرجة الأولى، خصوصًا في ظلّ العتبة الانتخابية المرتفعة نسبيًا، والتي ستحرم بعض القوى المدنيّة من إمكانية التأهّل للمنافسة على المقاعد، وكلّ ما في الأمر إذاً أننا سنشهد إعادة توزيع للقوى وأحجامها، لا أكثر ولا أقلّ.

"أعقد ما يكون"؟!

بعيدًا عن كلّ التعقيدات التي يسعى البعض لإنزالها على قانون الانتخاب، فإنّ القانون هو بلا شكّ من أبسط ما يكون بالنسبة للمواطن، الذي لن يكون عليه سوى اختيار لائحةٍ، مكتملة أو غير مكتملة، يمنحها صوته، وانتقاء مرشحه المفضّل على اللائحة، لإعطائه صوته التفضيلي.

ولكن، في المقابل، قد يكون صحيحاً أنّ الأمر سيكون من "أعقد ما يكون" بالنسبة للسياسيين، الذين يُقال أنّهم بدأوا الخضوع لورشاتٍ تدريبيّة على القانون، ليفهموا كيف يجب أن ينسجوا تحالفاتهم الانتخابية، وبعد ذلك، كيف يفترض بهم الحشد، وكذلك توجيه الأصوات التفضيلية وتوزيعها.

وبين هذا وذاك، يبقى الثابت أنّ القوى السياسية باقية كما هي، مع إعادة هيكلة في التوزيع لا أكثر ولا أقلّ، بظلّ قناعةٍ واضحةٍ بأنّ أيّ شعورٍ لدى هذه الطبقة بأنّ قوى جديدة ستدخل على الخط لتفسح المجال أمام ديناميكية التغيير، لن يجعلها تتردّد للحظة في نسف القانون عن بكرة أبيه، وهو احتمالٌ سيبقى واردًا حتى اللحظة الأخيرة...