يجول أردوغان في روسيا اليوم، ويحاول في حضرة فلاديمير بوتين أن يعلن كلامًا منمقًا حول مسؤولية الجماعات المتشددة عن العنف في سوريا. والواقع أن تركيا - أردوغان اليوم، تمرّ بلحظات مفصلية في تاريخها، وفي تاريخ الرجل بالذات. هو يعيش قلقًا مزدوجًا، قلقًا من أن تؤدي الخسارة التي مُني بها مشروعه في سوريا، الى الإطاحة به شخصيًا في الانتخابات المقبلة، والاطاحة بمشروعه للهيمنة على الشرق الأوسط واستعادة حلم السلطنة، والذي ما زال يأمل أن يتحقق.

بالرغم من كل الخسائر، ما زال أردوغان يعيش أوهام الحلم الامبراطوري التركي، لذا كان إعلانه في ديار بكر أن أي قوة لن تستطيع أن تواجه بلاده، معتبراً أن "القرن الواحد والعشرين سيكون قرن تركيا". وقد تكون السياسة الاردوغانية تقوم على المراهنة على العودة قطبًا مركزيًا فاعلاً في الشرق الأوسط في التسوية المرتقبة، كدولة سنّة مركزية، بعد انكفاء الدول السنيّة العربية، وخاصة السعودية، ورفضها الانخراط الايجابي في الحل في سوريا وفي التسوية الشاملة في المنطقة.

يدرك أردوغان أن أمامه فرصة تاريخية قد لا تتكرر، بالتعويض عن خسائره وخسائر مشروعه الامبراطوري الذي أدّى الى تطورات خطيرة مقلقة داخليًا وخارجيًا أهمها:

أولاً: سقوط مشروع الأخوان المسلمين الذي كان يعني هيمنة تركيا على منطقة استراتيجية كبرى تمتد الى ما يشبه حدود الدولة العثمانية المنهارة، بالاضافة الى الخسارة ميدانية في سوريا، وفشل المراهنة على إسقاط نظام بشار الأسد.

ثانيًا- التململ الداخلي من سياساته المتشددة والتي تحاول أن تهيمن على المجتمع التركي سياسيًا وثقافيًا، ما أدى الى الانتفاضة في "تكسيم"، وظهور أجنحة داخل حزب العدالة والتنمية، على أبواب انتخابات محلية ورئاسية ستجري في العام المقبل، وقد يدفع أردوغان شخصيًا فيها، ثمن دخوله في مغامرة الهيمنة على الشرق الأوسط وسقوط مشروع الأخوان الامبراطوري برمّته.

ثالثًا والأهم تركيًا على الاطلاق، هو الموضوع الكردي، الذي يحاول أردوغان أن يحتويه ويستوعبه بإقامة علاقات اقتصادية جيدة مع كردستان العراق، والذي يحلم بأن يتحوّل الى نوع من التحالف السياسي مع الأكراد في العراق ضد أكراد سوريا وتركيا، ما يوحي بأن دعوة البرزاني - رئيس اقليم كردستان العراق- للقيام بزيارة الى تركيا، هي مؤشر على دعم أكراد العراق لرجب طيب اردوغان ضد الزعيم الكردي المتمرد المسجون في تركيا عبدالله اوجلان.

وكما أردوغان، يعيش الأتراك اليوم، قلقًا مزدوجًا أيضًا، فهم يقلقون أولاً من وجود "القاعدة" على حدودهم المباشرة مع سوريا، ومن معلومات عن وجود سيارات مفخخة، أدخلتها "داعش" الى تركيا، أما القلق الثاني والذي لا يقلّ أهمية عن القلق الأمني الذي تسببه داعش، فهو خطر قيام "دويلة" كردية ثانية على حدودهم مع سوريا، بعدما أعلن الاكراد السوريون قيام إدارة مدنية ذاتية في مناطقهم التي طهروها من القاعدة، علمًا أن الحدود السورية - التركية هي حدود كردية في الديموغرافيا وامتداد لنفوذ حزب العمال الكردستاني الذي يرأسه أوجلان.

لقد دعمت تركيا المجموعات المسلحة بالرغم من خطوة تمركز القاعدة على حدودها، خشية قيام كيان كردي، وها هو اليوم يصبح واقعًا فعليًا على الأض، ونتيجة لسياسة تركية "متهورة"، توهمت ربحًا مضمونًا في سوريا، فإذا به يرتد خسارة استراتيجية، قد تؤدي الى تحفيز الاتراك في الداخل التركي الى المطالبة بالانفصال، بعد بروز دويلتين كردتين، على الحدود مع تركيا، بما يغري بالمطالبة بالدويلة الثالثة.

وهكذا، يسود القلق الأجواء التركية، ولكن الحلم الامبراطوري لم ينتهِ، وها هي البراغماتية التركية تجد أن هناك وسيلة أخرى لتحقيقه، بالانخراط في التسوية المرتقبة، بعدما فشل تحقيقه من خلال الانخراط في الحرب. وهكذا، نجد أردوغان ووزير خارجيته، يرسلون الرسائل الحارّة الى كل من ايران والعراق، ويفتحون عهدًا جديدًا من الكلام المعسول، يصل الى حد المشاركة في ممارسة "الشعائر الكربلائية" في النجف وقمّ.

يطمح الاتراك بوكالة غربية استراتيجية، لحكم واقع سنّي ديمغرافي هائل في منطقة الشرق الأوسط، ويعوّلون في ذلك على عدم قدرة العجائز السعوديين على التعامل بواقعية وبراغماتية، ورفض الانحناء للريح، وعلى "جنون" بعض الأمراء السعوديين، الذي يتوهمون أنهم قادرين على تأنيب الدول الكبرى، وعرقلة مشاريعها الكبرى في المنطقة، ومحاسبتها على التخلي عنهم باستعمال الارهاب الدموي المتنقل...

وهكذا، نتوقع أن تشهد المنطقة في الأشهر القادمة، في ظل صراع نفوذ تركي سعودي، تغييرًا في ميادين الصراع وأساليبه، ومحيطه الجغرافية، الذي قد يمتد ليشمل الداخل التركي والسعودي معًا.