البعض يرى فيه "فزّاعة" والبعض الآخر "شرًا لا بدّ منه"، وبين الاثنين بعضٌ ثالثٌ يرى فيه "الأمل" المتبقّي في وطنٍ "مُنهار" من رأسه إلى أخمص قدمَيه..

إنه باختصار المؤتمر التأسيسي، الذي كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله أول من دعا إليه قبل سنتين، منطلقًا من الإجماع اللبناني "الضمني" بعدم وجود دولة حقيقية..

مرّت سنتان نُبِذ فيهما هذا المؤتمر ورُفِض من الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، ورُفِعت شعاراتٌ قيل أنها "كامنة" خلفه من مثالثةٍ هنا إلى ضربٍ لكلّ أسس المواطنة هناك، ومع كلّ شعارٍ يُرفع كانت الدولة "تنهار" أكثر فأكثر...

دعوة لم تأتِ من فراغ..

لم تأتِ الدعوة للمؤتمر التأسيسي من فراغ. هذا ما يؤكده المؤيّدون للمؤتمر والمتمسّكون بفكرته رغم كلّ المعوّقات والاعتراضات. هم أصلاً يستغربون ما يسمّونها "الحملة" التي تعرّضت لها الدعوة منذ اللحظة الأولى والتي، للمفارقة، لم تتوقف حتى الآن.

وبحسب هؤلاء، فإنّ الفكرة برمّتها لم تنطلق إلا على الدعوة لمؤتمر يناقش فيه الأفرقاء اللبنانيون، أي اللاعبون السياسيون، كلّ شيء، من بنية الدولة المتفكّكة إلى المؤسسات المعطّلة والقوانين الغائبة. بكلامٍ آخر، فإنّ الفكرة تقوم على حوارٍ متعمّق وجدّي للنظام برمّته، وكيفية صموده.

أكثر من ذلك، يقتنع هؤلاء بأنّ الأمور أخذت مع البعض منحىً مختلفًا حرّف فكرة المؤتمر التأسيسي عن مسارها جملة ومضمونًا. "من قال بأنّ مؤتمرًا من هذا النوع من شأنه أن يشرّع المثالثة؟ من ادّعى أنّ مؤتمرًا من هذا النوع من شأنه أن يفرض على اللبنانيين ما لا يريدونه؟" يسألون، قبل أن يضيفوا: "الفكرة كانت مجرّد فكرة، وكان يمكن تطويرها بعد الجلوس على طاولة واحدة، ولا شيء يمكن أن يحصل دون رضا كلّ الأفرقاء".

دولة "ميتة"؟!

على العموم، يرى كثيرون أنّ فكرة المؤتمر التأسيسي "وُلِدت ميتة". ينطلق أصحاب هذا الرأي من هواجس مشروعة، إلا أنّها لا تبرّر برأي معارضيهم رفض مجرّد البحث بمكامن الخلل المنتشرة بكثافة في النظام، رغم كثرتها.

"إذا كانت الدولة قبل سنتين متفكّكة ومنهارة، فهي تكاد تصبح اليوم في عداد الموتى"، يقول المؤيّدون، مسترسلين بالحديث عن "الحيطان المسدودة" التي وصلت إليها البلاد على كلّ الجبهات، والتي تكاد تلامس "الإفلاس" على كلّ الأصعدة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

ولعلّ التوقف عند النماذج "الفاقعة" التي شهدها المجتمع اللبناني خلال السنتين الماضيتين أكثر من كافٍ لتوضيح هذه الرؤية، انطلاقاً من هيبة الدولة المغيّبة عن سابق تصوّر وتصميم، إلى الإشكالات الدستورية والقانونية التي تبقى بلا حلّ، والشواهد على ذلك ليست لا قليلة ولا بعيدة في الزمن، بل جلّها سُجّلت في الأشهر القليلة الماضية، من العجز عن إجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ ورئاسيةٍ بل العجز عن مجرّد إقرار قانونٍ انتخابي عصري وعادل، إلى العجز عن تأليف حكومةٍ بالحدّ الأدنى، وهنا بيت القصيد، إذ إنّ الحكومة احتاجت لأشهرٍ طويلة قبل أن تبصر النور، أشهُر كان يمكن أن تصبح سنواتٍ فيما لو عجز رئيس الحكومة "المكلف" عن تأليف حكومة وبقي ممسكًا بورقة "عدم الاعتذار"، أشهرٍ عاشت فيها البلاد في ظلّ رئيسَي حكومة، واحدٌ "مصرّف" وآخر "مكلّف"، وعُطّل المجلس النيابي والتشريع فيه بذريعة عدم وجود رئيس حكومة "أصيل".

قانونٌ يفتقر للوضوح...

لا شكّ أنّ الأمر يعبّر عن "خللٍ" جدّي في النظام، ذلك أنه لولا "نعمة" التوافق الخارجي المنشأ لكان لبنان لا يزال حتى اليوم يعيش أزمة حكومية غير مسبوقة، يمكن أن تستمرّ بـ"غطاء" النظام إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا. ومن هذه الأزمة إلى أزمة الرئاسة التي باتت أقرب إلى "الروتين"، مع تربّع "الفراغ" على كرسيّ الرئاسة الأولى للمرّة الثانية في أقلّ من سبع سنوات، وذلك نتيجة لـ"عجز" الأفرقاء عن انتخاب خلفٍ للرئيس ميشال سليمان، تمامًا كما عجزوا في السابق عن انتخاب خلفٍ للرئيس إميل لحود، إلى أن كانت تسوية الدوحة الشهيرة التي سبقتها أحداث السابع من أيار.

هنا أيضًا، المشكلة في النظام أولاً وأخيرًا، النظام الذي يغطي الفراغ، والذي لا يعطي حلولاً طويلة الأمد لأزماتٍ من هذا النوع، فوفق هذا النظام، يمكن أن نبقى إلى أبد الآبدين بلا رئيس، وبالتالي يكون الرئيس ميشال سليمان آخر رئيس في سدّة المسؤولية. وهنا، أسئلة مشروعة تُطرَح، فـ"هل من المنطقي أن يسمح النظام بحالة الشغور كما يحصل اليوم؟ وهل من المنطقي أن يغطّي النظام تقاعس ممثلي الشعب عن القيام بواجباتهم باعتبار ذلك حقاً من حقوقهم؟"

وعودٌ وضحكٌ على الذقون..

ولعلّ من النماذج "الفاقعة" عن "الحيطان المسدودة" التي يلامسها النظام القائم، ما يحصل في قضية سلسلة الرتب والرواتب، السلسلة التي تتقاذفها الدولة وأصحاب الحقوق منذ ما يزيد على السنتين. وفي هذا الإطار، يلاحظ المعنيّون والمواكبون لهذا الملف أنّ المماطلة فيه تكاد لا تُصدَّق، بل إنّ الوعود التي قدّمتها الدولة ولم تفِ بها أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى.

لا يجد هؤلاء ضرورة للتذكير بعدد المواعيد "الحاسمة" التي ضُربَت لبتّ أمر هذه السلسلة وحسمها، والتي انقلب عليها "ضاربوها" أنفسهم دون أن يشعروا بأيّ "حَرَج"، إذ إنّ حيثيات هذه القضية من ألفها إلى يائها تمثل مهزلة لا سابق لها في التاريخ الحديث.

هكذا، يمكن للدولة، المتهمة دومًا وأبدًا بـ"الفساد"، أن تقرّ بالحقوق وتعترف بأحقية المطالب النقابية، ويمكنها أيضًا أن تجاهر برفض منحها خوفًا من "الإفلاس" في ما يشبه "الضحك على الذقون"، كما يمكنها أن تقدّم الوعود ثمّ تنقلب عليها خوفًا من أن ينقلب السحر على الساحر، وليس آخر "دهاليز" هذه القضية ما حصل على صعيد الامتحانات الرسمية وتحوّل الطلاب لـ"رهينة" السلطة وسياساتها الخاطئة..

صدفة مدبّرة؟!

إزاء كلّ هذه الوقائع، سؤالٌ مشروعٌ يُطرَح: هل باتت كلّ الطرق تفضي فعلاً إلى المؤتمر التأسيسي، شاء من شاء وأبى من أبى؟

تبدو الإجابة الأقرب للمنطق إيجابية، وإن اختلفت الخلفيات، وسواءٌ كان ذلك وفق مخطّط مدروسٍ ومدبّر أم بفعل "الصدفة" المحضة، لأنّ "الفزّاعة" هنا قد تصبح "الخلاص" الوحيد لإنقاذ نظامٍ على حافة الهاوية لا يزال البعض يصرّ على "تقديسه" رغم كلّ "علاته"..

ويبقى الأهمّ من كلّ ذلك، أن يتّعظ اللبنانيون، فإذا كان المؤتمر التأسيسي "فزّاعة" فعلاً، فإنّ إصلاح النظام لا يجب أن يكون كذلك، خصوصًا أنّ الدساتير الحالية، وفي مقدّمها الطائف، ليست كتبًا مقدّسة وهي قد أثبتت عمليًا عجزها عن مواكبة التحدّيات، وإلا فإنّه لن يكون من حق السياسيين أن "يتفرّجوا" على انهيار مؤسساتهم وتضعضعها لأنهم سيكونون المسؤولون عن ذلك أولاً وأخيراً..