بات العراق نموذجاً متجدّداً لإضطهاد طائفي بغيض لطالما لحق بالمسيحيّين عبر التاريخ في أكثر من مكان في العالم، حيث إضطر في الأيّام القليلة الماضية نحو 25,000 نسمة كانوا لا يزالون في الموصل إلى مغادرة منازلهم بعد تهديد مسلّحي تنظيم "داعش" الإرهابي بقتلهم بحدّ السيف ما لم يُشهروا إسلامهم، في تذكير بممارسات تعود إلى قرون مضت. وعمد مسلّحو التنظيم الإرهابي لاعتراض مواكب المسيحيّين الفارين من الموصل باتجاه دهوك وإربيل في إقليم كردستان، وسلبوهم ما يحملونه من مُقتنيات شخصيّة، وتعرّضوا بالضرب لمن إعترض، وصادروا عنوة عدداً كبيراً من السيارات، في الوقت الذي كان مسلّحون آخرون ينتهكون حرمة نحو 30 كنيسة (بعضها أثري) في الموصل، ويصادرون منازل المسيحيّين الفارين من المدينة. والوقع المعنوي للإضطهاد المتجدّد لمن تبقّى من مسيحيّين في الموصل(*)إنسحب على قرى وبلدات مسيحيّة مجاورة، ومنها على سبيل المثال بلدة برطلة التي كان يعيش فيها عدد كبير من المسيحيّين، علماً أنّ الإضطهاد يطال أيضاً المسيحيّين في مناطق سيطرة "داعش" في سوريا. والمُحزن أنّ معاناة من تبقّى من مسيحيّي العراق وسوريا وغيرهما، تمرّ مرور الكرام من دون أيّ ردّات فعل تُذكر، باستثناء بعض بيانات الإستنكار الخجولة من هنا وهناك من وقت لآخر. فهل هذا أقصى ما يُمكن عمله؟

لن نغشّ أنفسنا بالقول إنّ أنظار العالم هي على مسيحيّي الشرق وعلى مصالحهم وحقوقهم، وإنّ ما يحصل للمسيحيّين في العراق وسوريا والشرق الأوسط ككل هو بسبب عدم وقوف مسيحيّي لبنان بجانبهم. فالوقائع واضحة، وهي كلّها تؤكّد أنّ الصراع السياسي الأميركي-الروسي على المصالح والنفوذ العالميين على أشدّه، وهذا الصراع لا يهتمّ بمصير آلاف المسيحيّين المضطهدين، وإهتماماته تكمن في تعزيز أوراق التفاوض وحماية المصالح السياسية والإقتصادية. والواضح كذلك الأمر أنّ الصراع الإيراني-السعودي على إمتداد المنطقة، بطبيعته السياسيّة والعقائدية والمذهبية على أشدّه أيضاً، وإهتماماته تتركّز على توسيع مناطق السيطرة الجغرافية والنفوذ السياسي عبر القوى الحليفة، وعلى الإستحواذ على مزيد من أوراق الضغط ضد الخصوم، وعلى محاولة نشر العقائد السياسية والدينيّة، حتى ولو على حساب تهجير بعض المسيحيّين من هنا أو التظاهر بحمايتهم وإستغلالهم لتلميع صورة دكتاتور من هناك. وكلّ الوقائع تؤكّد أنّ جزءاً كبيراً من المسيحيّين في المنطقة يدفعون ثمن مواجهة دموية لا علاقة مباشرة لهم فيها، وهي واقعة بين أنظمة أمنيّة دمويّة وشعوب ثائرة على إضطهاد مزمن، مع تسجيل دخول كل الأجهزة الإستخبارية الإقليمية والدولية على الخط، ومع إستقدام آلاف المقاتلين من مختلف أصقاع العالم لدعم هذا الخط السياسي أو ذاك، وهذا الدكتاتور أو خصومه، وكذلك مع بروز عقائد متخلّفة يُحرّكها متشدّدون منغلقون بتزمّتهم وتعصّبهم، ويديرون مجموعات مسلّحة من جهلة وحثالة قوم، لإرتكاب أبشع المجازر تحت شعائر دينيّة ووعود زائفة.

لكنّ كلّ ما سبق لا يعفينا كمسيحيّين في لبنان، حيث لا نزال نملك هامشاً معيّناً من القدرة على الحركة وعلى التعبير، من رفع الصوت ضد ما يطال مسيحيّي الشرق، أكان في السودان أو مصر، وإن في سوريا أو في العراق، أو حتى في نيجيريا أو أيّ دولة أخرى. فما الذي يمنعنا مثلاً كهيئات مسيحيّة ناشطة إجتماعياً من تنظيم تظاهرة مركزيّة حضاريّة مع تسويق إعلامي مُسبق لها، بهدف تسليط الضوء على حملات الإضطهاد الجديدة ضد المسيحيّين؟ وما الذي يمنعنا مثلاً، كسلطة كنسيّة من التوجّه إلى الفاتيكان لتحريك ملف توفير الحماية لمسيحيّي الشرق دولياً بشكل جدّي وليس عبر خطاب عابر؟ وما الذي يمنعنا مثلاً، كسلطة حكومية ونيابية رسمية في لبنان، من إرسال الوفود إلى الحكّام في مصر والسعودية وقطر وتركيا وإيران، وحتى إلى سوريا والعراق، لبحث سُبل إيجاد بعض مناطق الحماية للمسيحيّين في مناطق المواجهات؟ وما الذي يمنعنا مثلاً، كناشطين وإعلاميّين وسياسيّين مسيحيّين لبنانيّين، من مطالبة الشركاء المسلمين في الوطن من مساعدتنا، كلّ بحسب موقعه وعلاقاته الإقليمية والدولية المختلفة، على المطالبة معنا بتوفير مظلّة حماية للأقليّات المسيحيّة المتبقّية في الدول العربيّة؟

في الختام، إنّ مشكلة المسيحيّين في الشرق تكمن، إضافة إلى قلّة عددهم، في عدم إستعدادهم لحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، كما غيرهم من الأقليّات، وفي إعتمادهم سياسة مُساكنة ومهادنة منخفضة السقف لأنظمة ثبت بالوقائع الميدانية أنّها عاجزة عن حمايتهم لأنّها عاجزة أساساً عن حماية نفسها، وكذلك في غياب التنسيق في ما بينهم وعدم إعتماد رؤية مواجهة موحّدة على مستوى دول الصراع. لكن الزمن ليس للملامة، بل لرفع الصلاة على نيّة كل مسيحي مُسالم مُضطهد أكان في العراق، أم غيره، مع تعزية أنفسنا بآية "طوبى لكم إذا شَتَموكم واضطهدوكم وَافْتَروا عليكم كلَّ كذب من أجلي"، (متّى 5-11)، على أمل أن لا يدفعنا هذا العجز الشامل على حماية المسيحيّين في الشرق- إن طال من دون أن يتحرّك أحد لوقفه، إلى رفع صلوات بعيدة عن إيماننا وعن ديننا، بتمنّي أن يَفني المتقاتلون على إمتداد مساحة الشرق الأوسط بعضهم بعضاً كملاذ أخير لبقائنا!

(*)في العام 2003، وتحديداً قبل الإجتياح الأميركي للعراق كان عدد المسيحيّين يزيد على المليون وأربعمئة ألف نسمة. ومنذ سقوط الحُكم المركزي في بغداد وإنفجار الصراع المذهبي وإستهداف الأقليّة المسيحيّة بسلسلة تفجيرات إرهابيّة، راح العدد يتناقص بوتيرة سريعة حيث أشارت آخر الإحصاءات عن وجود نحو ثلاثمئة ألف مسيحي فقط في العراق حالياً، منهم نحو خمسة آلاف كانوا لا يزالون في الموصل.