عندما تاهت أحلام"دولة الخلافة" المرتجلة والمعولمة فوقعت في شباك العولمة. كيف؟

عندما شكّلت الصور الثلاثة أمراً وبلاغاً "عسكرياً" رقم واحد من الرأي العام الأميركي الى القيادات الأميركية والدولية التي إنصاعت لقوّة الصور التي لا يمكن للناس تحمّلها من دون المطالبة بإلغاء داعش، وحسر اللثام عن إسلاميين حاملين السيوف وأجهزة الخلوي يلعبون بها متباهين ليبلغوا أقاصي الأرض عبر مواقع التسلية والتحدّي. صور فظائعهم فوق هاتف محمول لا يساوي ثمن مواد صنعه من شرائط وبلاستيك وزجاج أكثر من دولارين بينما مردوده الدموي والثقافي والمالي والبترولي والحضاري لا يمكن تقديره إذ يتجاوز طاقات الأنظمة والحكام وإستراتيجياتها التقليدية. صورتا نحر صحفيين أميركيين ثم عامل إغاثة إنكليزي إمعاناً في العنف الكيدي والتحدّي وقّعت قرار التحالف والحرب السريعة لكسر ظهر البعير التكفيري لكنّ النهايات تبقى أو تترك مرهونة بالميادين. فالمصطلحان Beheading وdecapitation بمعنى فصل الرأس عن الجسد إجتاحا الرؤوس والنصوص والشاشات في العالم ، وأنضجا قوّة الرأي العام العالمي وسلطاته بسرعة قياسية هائلة فاقت سرعة ظهور داعش من دون جهود وإستراتيجيات كبرى مألوفة، وإلاّ؟ وإلاّ خطر إنهيار حكومات وسلطات غربيّة وعربية بدت بلهاء لكنها متآمرة!

لا حاجة لتكرار الخلفيات والتحليلات المتناقضة والفوضوية في تصرف الدول الكبرى والصغرى والأكثريات والأقليات حيال المشاهد الدموية العاصفة المرضية التي أمعنت فيها داعش وتوّجتها بمشاهد الجلد وقطع الرؤوس والصلب. لماذا؟ لأسباب كثيرة أقلّها أن الغوص في مؤلفات الطبري مثلاً وإبن الأثير أو العودة الى الحسين والحجّاج الثقفي في العراق وزياد إبن أبيه والهنود الحمر والثورة الفرنسية التي تعني 400 سنة في العنف يرمينا من دون عبر مهمة في تاريخ حافل بقطع الرؤوس بالسيف أو بالمقاصل وبالشنق والرمي بالرصاص والحقن بالسم أو بكراسي الكهرباء. تاريخ يأخذنا بأيدينا نحو الرومان الذين كانوا يحسرون عن القسم العلوي للشخص المدان، ويروحون يجلدونه بعدما يربطون يديه حتّى يتحوّل الى كتلة مشتعلة يصار الى تثبيتها بالمسامير فوق خشبتين بشكل صليب فيفارق معلّقاً حتّى يتعفّن جسده وتجتاحه الطيور الكاسرة وتستوطنه الحشرات. وكان الرومان يسقون المدان المصلوب أرخص الخمور لتخفّف من آلامه ويفقد الإحساس فيؤجّلون بذلك موته بهدف مضاعفة عذابه.

من يتصفّح موسوعة "قصّة الحضارة" ل: ويل ديورانت منذ الصفحة ص 3931 يجد بيلاطس البنطي الذي كان يوعز بتهشيم قوائم المصلوبين حتّى لا تبقى جثثهم مرفوعةً فتلوّث بروائحها سبوت الفصح حسب الشريعة اليهودية وفقاً ليوحنا 19/31)، الى ما هنالك من أصناف التعذيب تدفعك الى استبدال حرف الضاد بحرف الدال في الموسوعة لتسمّيها"قصة الحقارة" بدلاً من قصة الحضارة".

هذه الألوان القاسية من ألبومات التاريخ البشري العنيف مختلطة مع الألوان المعاصرة الداعشية وأشباهها بتنا نقرأها ونسمعها ونشاهدها منبوشةً أو جاهزة، في المقالات والتحليلات والنصوص والكتب والأفلام السريعة وهي بمتناول الجميع صغاراً وكباراً. تلك ظاهرة بمنتهى الخبث والخطورة عندما يختلط ما يفعله إرهابيو اليوم مع ما يحفل به التاريخ الواقعي أو الأفلام الخيالية إذ يخفّف من قساوة التوحش الذي ألمّ اليوم بأرض الشام والعرب بشكلٍ مفتعل أو بشكلً سادي غير مقصود. لماذا؟ لأنّ العيون والأذهان والنفوس إذ تتشبع بمشاهد العنف الراهن تأوي الى التاريخ للنكاية والحماية أو للتخفيف من هول المشاهد المستعصية.

لا حاجة أيضاً لإستهلاك الحبر في إيراد الوقائع والأسباب والخلفيات التي دفعت مجموعة تكفيرية الى قلب صورة الواقع الإسلامي والعربي في بلاد الشام في وقتٍ قصير، بلغ ذروة تحدّياته للمسلمين في أمرين: الأوّل عندما تجرّأ ملثّم داعشي أشقر من إعلان "دولة الخلافة" وإعلان نفسه خليفة لجميع المسلمين في العالم ، وثانياً عندما هدّد في 5 تموز/يوليو 2014 بصوته وصورته من لا يبايعه الخلافة بقطع الرأس. هذا تحدّ قوي آخره كان سنة 756 أي قبل 13 قرناً بإعلان عبد الرحمن الداخل دولة الأمويين في الأندلس ملقباً نفسه بخليفة قرطبة بدلاً من لقبه الأوّل أمير قرطبة. لقد بلغ الإرهابيون "القمم" في ممارسة العنف والتنظير له. يكفي المرور بنقرة إصبع في منتدياتهم حيث ترتفع العين الصادقة على ملاحم جهادهم في "دولة الخلافة" في القرن الواحد والعشرين لتقرأ ما يوقف شعر الأبدان في أحكام النحر وقطع الرؤوس في الإسلام. لقد وصل الأمر بهم الى نحر جوهر الدين عندما تجرّأوا على الكتابة والنشر مثلاً:" لقد كثرت الأحاديث عمّا يفعله الأخوة في تنظيمات القاعدة وجيش أنصار السنة في بلاد الرافدين من ضرب الرقاب وقطع الرؤوس. وكثر الخلط واللغط في هذا الأمر حتّى أصبح كل مسلم يحقد على المجاهدين والعقيدة والصحبة فيدلي بدلوه بأنّ الذي نفعله وحشية وليس فيه من الإسلام بشيء. ألم يعلم أنّه بإعتراضه هذا قد إعترض على كلام الله تعالى المنزل من فوق السموات السبع ...". لقد تجاوز التكفيريون سلّم بابل وهم يشحنون الرأي العام الإسلامي والعالمي بالنصوص والأفعال المتجاوزة لكلّ خيال.

فات التكفيريون أنّهم" دولة خلافة" لكنهم أداة لهو عابرة بين أصابع الدول في عصر العولمة. يمكنهم اللعب بالسيوف ويمكنهم قطع الرؤوس وجلد الأبرياء أو تفجير سدّ الموصل تحقيقاً للطوفان الثاني في أرض الشام وكأنّهم يتطلعون الى التماهي بنوح الذي وجد النعمة في عيني الرب إذ أمره الله بالسفينة بعدما تفاقم شرّ الإنسان على الأرض وكان لا بدّ من محو الشرور عن الأرض بالطوفان الذي دام من 27/2/600 عاماً كاملاً. فاتهم أنّ الشاشات التي أتقنوها بالخبرة لا بالمعرفة، ولهوا بصورها ولعبوا بها مثل الأطفال المتوحشين أصابتهم في الصميم كما أصابت كلّ الدول والأجهزة والجهات والإستراتيجيات التي تحالفت أوتتحالف معهم أو تستفيد منهم، وهدّدت بكشف الأغطية للرأي العام وسقوط الأنظمة.

كان يمكن لأوباما ربّما ولكلّ رئيس دولة أو مسؤول غربي أو شرقي أن يشيح ببصره عن ملايين الصور الوحشية الحيّة أو التاريخية في سوريا والعراق، وهذا ما حصل ويحصل، لكنّ صور النحر الداعشي لغربيين في عصر العولمة ولّدت رأياَ عامّاَ غربياً لا يمكن تخطيه أو تجاوزه أو فرطه مهما تقاطرت الأسباب والذرائع حيث لم يعد يمكن لأوباما ولغيره إلاّ القفز من فراشه فلا يخلد الى النوم قبل داعش أو "دولة الخلافة" التي قامت في مخيلة البشر المضغوطين بأعينهم وسباباتهم فوق زجاجة. نعم دولة إمّحت وستغيب في صور الهواتف المحمولة وهزّت معها كراسي الحكّام ليلتحقون بالرأي العام وأسقطت كلّ النظريات المعلوكة التي نجترّها في الجامعات بحثاً عن صناعة الرأي العام المقيم في أجهزة الخليوي والمقرّرٍ للحروب.

لكنها "دولة لا إسلامية" لم تنتحر بعد ولم يقطع رأسها!