أطلق انتصار ​الجيش اللبناني​ّ على أرض ​طرابلس​ مجموعة مقاربات سياسيّة جديدة، من شأنها أن تنتج حراكًا حقيقيًّا حيًّا جديرًا بالمتابعة. وفي ذهن الكثيرين، الذين تابعوا المعركة بتفاصيلها وتجليّاتها، أنّها لم تكن موضعيّة على الإطلاق، بل كانت وجوديّة لم يواجه الجيش فيها تنظيمًا عابرًا أو جبهة طارئة، بل واجه مجموعة قوى إقليميّة وعربيّة احتشدت في جوف المواجهة. لذا صحّ القول إنطلاقًا من هذا التوصيف، بأنّ معركة الجيش اللبنانيّ هي مع الدينامية الاحترابيّة لهذا الاحتشاد الإقليمي والعربيّ، المتسربل وشاح داعش والنصرة، وبنصره المبين في طرابلس أطلق العنان لمقاربات بدأت تنسكب في العمق السياسيّ اللبنانيّ الجامد.

لا يعني الانتصار في معركة طرابلس خلوّ المدى اللبنانيّ من مجموعة استطرادات متراكمة نتيجة هروب وتواري الرؤوس الكبرى بسبب وجود ممراتٍ آمنة خلف حجب قد لا تكون سميكة بعد وضوح الخطاب السياسيّ عند كثيرين وبخاصّة عند رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ من خلال بيانه الأخير. فالطريق لا تزال ملتهبة بين عكار وعرسال، والبيان الحريريّ-الناريّ، بتصوّر وزير سابق، "سحب البساط" من تحت أقدام المسلحين سواء كانوا بإمرة "أبو مالك التلّي"، "أو أبو بكر الجزائريّ". لم يعد هذا الفصيل المتوحّش ناطقًا باسم أهل السنّة. فهم، وبحسب كلام سعد الحريري، "كانوا على الدوام وما زالوا يشكّلون القاعدة المتينة لأهل الاعتدال والوحدة، بل هم ركن متقدّم من أركان الصيغة التي يقوم عليها وطننا، وهم مؤتمنون على إرث قوميّ ووطنيّ لن يفرّطوا به ولن يسلموا بالتراجع عنه، مهما اشتدّت عليهم ظروف الاستقواء بالسلاح الخارجيّ..." وبهذا المعنى، يسوغ القول بأنّ بيان الحريري ليس مجرّد منطلق توظيفيّ في خطاب سياسيّ جامد، بل هو تحفيزيّ بالعمق لكي يكمّل الجيش حربه على الإرهاب في لبنان، وهي وبحجمها الكبير لا يمكن أن تسلك، وبخاصّة بعد هذا الوضوح في المنحى السياسيّ، منهج التحجيم الموضعيّ، بل سلكت مسبقًا طريق الاستئصال من الجذور. فما حصل في طرابلس بحسب توصيف أمنيّ، عملية جراحية دقيقة للغاية، وستستتبع بعمليات جراحيّة أخرى، تستأصل هذا الورم السرطانيّ من عكار إلى عرسال وصولاً إلى صيدا، وقد تفشّى كثيرًا واستبدّ بالخطاب السياسيّ إن عن طريق الاستفزاز أوخلط الأوراق ومن ثمّ استهلاك بيئة حاضنة لها، في كثير من البواطن السياسيّة غير المعلنة. وبحسب مصدر سياسيّ محايد، إنّ البون شاسع بين التحجيم والاستئصال، فالتحجيم يجيء من إرادة استغلاليّة فيبقى الإرهاب ورقة ضاغطة حين تشاء الظروف السياسيّة والأمنية، أمّا الاستئصال فهو الجوهر الذي يقرّب لبنان من الحلّ السياسيّ ويعيده إلى المزيد من التماسك الخيّر والمنتج، والذي يعني اقتراب الميدان السياسيّ من تأمين الاستحقاق الرئاسيّ.

مصدر كبير في تكتّل "التغيير والإصلاح"، أعلن في حديث له، بأنّ "بيان الحريري وإن انطلق من الأرض الطرابلسيّة غير أنّه في بنيته جيّد ويمكن التعويل عليه كبداية حقيقيّة لمقاربة بعض المسائل التي هي موضع تجاذب بين اللبنانيين، وهو يجيب على أسئلة شفهيّة طرحها العماد ميشال عون عليه إن عبر وسطاء أو مباشرة". وبشكل من الأشكال، هو إيضاح بعد استيضاح للعماد عون، ويساهم تاليًا بفتح كوّة لحراك سياسيّ حواريّ يختزن عناصر الأزمة وسيحاول امتصاصها تمهيدًا لتسوية تخرج لبنان من سجنها وشباكها بانتخاب رئيس وفاقيّ ميثاقيّ، يعيد الاعتبار لجوهر الميثاق المعطوب بفعل تمادي الأزمة سواء بالاشتباك السياسيّ أو الأمنيّ أو العسكريّ.

هل يأتي هذا البيان تبيانًا لإرادة سعوديّة بتسهيل الحلول السياسيّة في لبنان؟ وهل، تاليًا، يستطيع سعد الحريري إيجاد هامش خاصّ به للتحرّك والانعطاف في الملف السياسيّ العالق؟ هل يتفرّد خارج سياق الاشتباك الإيرانيّ-السعوديّ، في خطاب يعيد الداخل إلى الصفاء والعقلانيّة والتأمّل الهادئ، وينتج رؤى جديدة تعيد إلى لبنان توازنه بحياة شركويّة ثابتة؟ تلك أسئلة مطروحة للنقاش بعد جلاء الغبار عن أرض المعركة في طرابلس، وترقّب معارك وطنية أخرى سيخوضها الجيش بوجه الإرهابيين لاستئصالهم. المصدر عينه في تكتّل "التغيير والإصلاح"، المعنيّ بهذا الخطاب، أجاب ببساطة على نقطة واحدة، بأنّ سعد الحريري يتكلّم بصفته كرئيس لتيار "المستقبل"، وبصفته رئيس حكومة سابق، وبصفته زعيمًا سنيًّا، ليس له مصلحة على الإطلاق في استبقاء التنظيمات والحركات التكفيريّة لتحتكر النطق والكلام باسم أهل السنّة في لبنان. وقد دلّ على ذلك "بأنّ الدعوة إلى ثورة سنيّة في لبنان لا تنتمي إلى تطلعات السنّة وأهدافهم وحقيقتهم في شيء، بل هي دعوة تتساوى مع المشاريع المشبوهة لإنهاء الصيغة اللبنانيّة واستبدالها بدويلاتٍ ناقصة تتمايز بالصفاء المذهبيّ والطائفيّ لتعيش على أنقاض الحياة الوطنيّة المشتركة".

بيد أنّ "الهدوئيّة" الجديدة الساطعة في البيان الحريريّ، تتقاطع مع بيان "​كتلة المستقبل​" برئاسة فؤاد السنيورة بالتأكيد على تورّط النظام السوريّ في الأزمة اللبنانيّة، وتكرار العبارات التي تدين "حزب الله" في تدخّله في الحرب السوريّة واستدراجها إلى الدائرة اللبنانيّة. لماذا لم يجب الحريري عن سؤال سبق للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله أن طرحه بما معناه لو افترضنا أنّ "حزب الله" لم يدخل سوريا لمناصرة الدولة هل كان لتنظيم "داعش" أن يحصر معركته في سوريا أو ليست لديه خطة تمدد لإعلان إمارته من العراق إلى لبنان سواء دخل الحزب للقتال أو لم يدخل؟ اللافت في السياق أن ليس من أجوبة قدّمت من الحريري أو من "تيار المستقبل" بالوثائق التي يعرفونها من أجل جلاء حقيقة الموقف، بل ثمّة مواقف يسجلونها تبقى محدودة في إطارها التعبويّ والشعبويّ فقط، لم تعالج تلك الأسئلة بأجوبة جوهريّة شافيّة.

يبقى ختامًا، لتلك المقاربة، أنّ صدق التوجّه عند سعد الحريري وبعدما حصل في طرابلس لا يقوم على حماية أيّ نائب حرّض ضدّ الجيش بحسب شجب بيان كتلة المستقبل للتعرّض لحصانة النائب خالد الضاهر، بل تقوم على رفع الغطاء الكامل بشفافيّة كاملة ليتعانق الصدق مع الحقّ ويكون رحم ولادة حياة سياسيّة لبنانيّة جديدة.