شكلت العملية الاستشهادية النوعية التي نفذها فلسطينيان من قرية جبل المكبر شرقي القدس، في قلب الكنيس اليهودي في غربي القدس، وتمكنهما من قتل خمسة إسرائيليين ضابط وأربعة حاخامات، بينهم كبير حاخامات «إسرائيل»، رداً عملياً قوياً وقاسياً وسريعاً على جرائم الاحتلال الصهيوني، وهي جاءت بعد يوم واحد على قيام المستوطنين بشنق الشاب الفلسطيني يوسف الرموني أمام الكنيس، والذي خرج منه أحد عتاة المتطرفين الذين تتلمذوا على أيدي الحاخامات، وشارك قبل أشهر في عملية حرق الطفل الفلسطيني أبو خضير وهو حي، وهو ما أكدته صحيفة معاريف الإسرائيلية التي أشارت إلى ان العملية «قد تكون رداً انتقامياً على قتل الفتى المقدسي محمد أبو خضير، وحرقه في تموز الماضي، وان والد أحد المتهمين الرئيسيين في القضية يوسف حاييم بن دافيد اعترف أن ابنه كان يتردد إلى الكنيس نفسه يومياً وقد يكون اختيار هذا الكنيس تحديداً سببه الوصول إلى أقرباء قاتل أبو خضير وأصدقائه».

على ان هذا التصاعد في الإرهاب الصهيوني، والرد الفلسطيني عليه بالوسائل الشعبية المتاحة، إنما يعكس المستوى الذي بلغه الصراع في قلب القدس العربية, والذي يتجسد في:

أولاً: سعي القادة الصهاينة ومعهم المستوطنين إلى تهويد كامل القدس وتحويلها إلى مدينة يهودية، وعاصمة أبدية للدولة اليهودية العنصرية المزمع اعلانها، ويكون من تبقى فيها من المقدسيين العرب بمثابة أقلية تعيش في وسط بحر من المستوطنين بعد أن يكملوا مشاريعهم الاستيطانية في القدس الشرقية وأحيائها المجاورة، وكذلك عملية تقسيم المسجد الأقصى في سياق مخطط تهويده وإعادة بناء هيكل سليمان على انقاضه.

ثانياً: اصرار فلسطيني على المقاومة والتصدي لهذا المخطط الصهيوني الاستيطاني التهويدي ورفض الاستسلام والخنوع للمشيئة الإسرائيلية.

وتمثل هذا الاصرار في مستويين:

ـ مستوى الهبة الشعبية المتجسدة في التظاهرات والمواجهات مع قوات الاحتلال والمستوطنين.

ـ ومستوى تصعيد المقاومة الشعبية عبر ابتداع أساليب جديدة في هذه المقاومة باستخدام دهس جنود العدو والمستوطنين المتطرفين بالسيارات، أو الطعن بالسكاكين، أو المزاوجة بين السلاح الخفيف، والسكاكين والفؤوس، وصولاً إلى تنفيذ العملية الجريئة في قلب الكنيس اليهودي في القدس الغربية، والتي تمكن خلالها الشابان غسان وعدي أبو جمل الدخول إلى قلب الكنيس اليهودي متنكرين بثياب الحاخامات، وتنفيذ العملية النوعية، الأمر الذي يؤشر إلى المنحى الجديد الذي تتخذه الهبة الشعبية التي تزاوج بين التحركات الشعبية ضد الاحتلال وبين العمليات الفدائية الفردية وأحياناً المنظمة كالتي حصلت في الكنيس وتبنتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اشتهرت بهكذا نوع من العمليات المتقنة والمنظمة بدقة والمدروسة في تنفيذها واختيار أهدافها، فالكنيس المذكور هو المكان الذي جرى ويجري فيه تعبئة وتحريض المستوطنين على قتل الفلسطينيين، والتفنن في التنكيل بهم.

هل تقع انتفاضة ثالثة ؟

على أن هذا التطور في الهبة الشعبية، وفي عمليات المقاومة التي تبتدع أساليب جديدة في ظل عدم توافر السلاح، كما هو الحال في قطاع غزة، طرح السؤال بقوة عما إذا كان سيقود إلى التدحرج لانتفاضة ثالثة، بدأت تقلق المستوى القيادي الإسرائيلي الذي يخيفه أكثر أن تكون هذه الانتفاضة بلا قيادة، وغير مسيطر عليها، وبالتالي يصعب احتواؤها، ولا سيما، وأن أجهزة الأمن الإسرائيلية فوجئت بالعمليات الفردية غير المتوقعة في الزمان والمكان، والتي أدت إلى هز الاستقرار والأمن الصهيوني، فالهبة الشعبية والتطور في المقاومة الشعبية يأتي نتيجة طبيعية لحجم الغضب المتأجج في أوساط الشارع الفلسطيني الذي لم يعد يستطيع تحمل ما يحصل من قمع واستيطان، ويؤكد أن إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني لم تضعف، وهي تزداد اصرارا على التمسك بعروبة فلسطين، والاستعداد للتضحية في سبيل الدفاع عنها، وابتكار أساليب جديدة في وسائل النضال ضد مخططات العدو، وأساليب الدهس والطعن، لا يستطيع الأمن الصهيوني توقع حدوثها، أو تجنبها لا تكنولوجيا، ولا بأي وسيلة أخرى، وهو ما افزع القادة الصهاينة وجعلهم في حالة من التخبط، والاضطراب لا يعرفون ماذا يفعلون من اجراءات اضافية في مواجهة شعب يملك كل هذا العزم والاصرار والابداع في المقاومة، وكذلك الاستعداد للتضحية.

انطلاقاً من ذلك، فان ما هو متوقع أن تتجه الأوضاع إلى التصاعد، وتحول الهبة الشعبية إلى انتفاضة عارمة بفعل العوامل التالية:

العامل الأول: التوجه الإسرائيلي في تصعيد العدوان ضد الشعب الفلسطيني وضد أرضه ومقدساته، وهو ما تمثل في:

ـ تعزيز القبضة الأمنية الحديدية الاسرائيلية، وتحويل القدس إلى ثكنة عسكرية، ونشر الجيش الإسرائيلي فيها لأول مرة، لمساندة الشرطة التي عجزت عن قمع واحتواء الهبة الشعبية، والحؤول دون وقوع عمليات فدائية.

ـ انتقال الشرطة الإسرائيلية إلى «النشاطات الخاصة بمستوى 3، وإعطاء الأمر لجميع قادة المناطق بالاستعداد لأي سيناريو محتمل من عمليات انتقام وجبي الثمن، وزيادة الدوريات حول المساجد والكنائس، والأماكن المقدسة».

ـ اتخاذ الحكومة الإسرائيلية قرار بتسليح المستوطنين عبر أعطائهم رخص حمل السلاح ما يعني أن الأمور سوف تخرج أكثر عن السيطرة، وتزداد معها عمليات قتل الفلسطينيين.

العامل الثاني: استمرار الهجوم الاستيطاني التهويدي غير المسبوق في القدس المحتلة والسعي إلى طرد المقدسيين منها.

العامل الثالث: قرار الحكومة الإسرائيلية تسريع إعلان الدولة اليهودية عبر اقتراح رئيسها بنيامين نيتنياهو قانون القومية لإقراره، بدعم من أوساط الجناح اليميني في الكنيست، وهذا القانون يحول المواطنين الفلسطينيين العرب، سكان البلاد الأصليين، إلى مواطنين من الدرجة الثانية.

العامل الرابع:رفض الحكومة الإسرائيلية أية حلول تقوم على أساس حل الدولتين وسعيها إلى فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وإخضاعه للحل الصهيوني.

ويبدو من الواضح أن نتانياهو الذي أطلق العنان لمثل هذه السياسة والعمل على محاولة تكريس ما يسميه حق إسرائيل في الاستيطان من ناحية، والدفاع عن النفس في مواجهة العلميات الفدائية من ناحية ثانية يسعى للاستفادة في اتجاهين:

اتجاه أول:الموقف الدولي الذي دان العملية الاستشهادية في القدس، وصمت البعض وتجاهل البعض الأخر ما يحصل من تهويد وقمع وإرهاب ضد الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.

اتجاه ثاني: ترميم شعبيته والعمل على زيادتها وسط المستوطنين، وجمهور اليمين، واليمين المتشدد مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، لا سيما، وأن استطلاعات الرأي قد أشارت إلى تراجع في شعبية نتانياهو.

إن كل واحد من هذه العوامل السالفة الذكر كافي كي يولد المواجهات والمقاومة، وإذا ما تجمعت كلها دفعة واحدة فأنها ستكون سببا لإشعال انتفاضة، وزيادة شدة وقوة المقاومة، ذلك انه لا يمكن للشعب الفلسطيني أن يستكين وهو يرى بأم عينيه كيف تسلب منه أرضه وتهود مقدساته ويراد له أن يعيش عبداً في أرضه ويطبق عليه نظام التمييز العنصري.

ولذلك فالنتيجة الطبيعية لمثل هذا الوضع هو زيادة حدة الصراع والمواجهات والمقاومة وصولاً إلى الانتفاضة.

على أن موقف حركة فتح الذي تمايز عن موقف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي دان العملية الفدائية، يؤشر إلى أن المناخ الشعبي الفلسطيني بات يقترب أكثر فأكثر من الانتفاضة الثالثة، التي أصبحت كل ظروفها ناضجة، فأما نكون عندها أمام اندلاع انتفاضة شعبية عفوية بلا قيادة، كما يتوقع إسرائيلياً؟

ويأتي لاحقاً تبلور قيادتها، أو تسارع فصائل المقاومة بما فيها حركة فتح إلى ملاقاة الشارع الفلسطيني المنتفض وقيادة انتفاضة جديدة بعد أن سد الاحتلال كل المنافذ أمام الشعب الفلسطيني، ولم يبقِ أمامه من خيار آخر؟.