نحن ندور في عالمٍ مسطّح، وكأنّنا نتوء مزعج لعين الدنيا المعاصرة.

كتب آنشتين صاحب نظرية النسبيّة العامّة والخاصّة كلمته المشهورة:" أن الله لا تعنيه الصدفة". وهنا يتعين علينا أن نفهم بدقة علمية مضمون كلمة الصدفة الذي هو غير المعنى المتداول على ألسنة العامّة من البشر. فمن المعروف أنه في عالم الكم، وفي عالم ما دون الذرة، تتناغم الجسيمات وتتشكّل بعفوية مطلقة ثم تختفي عبر ومضةٍ عابرةٍ من الزمان. ولهذا نقرّ اليوم علميّاً بأنّنا في عالم غريب وعجيب تنسجه نظرية الكم وبفضلها مثلاً، تحققت تقنيّات الاتصالات والتقنيّات الرقمية و"الساتلايت" التي جعلت العالم الحالي، في زمن العولمة، منبسطاً لا كروياً وفقاً لتوصيف توماس فريدمان في كتابه "The world is Flat" أي "العالم مسطّح، تاريخ موجز للقرن الواحد والعشرين"(2005)، عندما ذهب نحو الهند من ناحية الشرق بينما ذهب كريستوف كولمبوس إليها من ناحية الغرب في العام 1492 عبر الأطلسي في دورة نحو الجنوب والشرق حول أفريقيا مفترضاً بانّ الأرض مستديرة. وكان إيجاد كولومبوس لهذه الطريق المختصرة بحرياً لأنّ القوى الإسلاميّة كانت تسدّ الطرق البريّة الى الشرق. لقد أخطأ كولومبوس في حساب المسافة، ولم يكن يتوقّع عبوره كتلاً ضخمة من اليابسة قبل توهّمه الوصول الى الهند، فسمّى الشعوب التي رآها في عالم أميركا الجديد المكتشف هنوداً، لكنّه قفل جازماً بكرويّة الأرض بالرغم من أنّه لم يصّل الى الهند. فهل إستحال التناغم نهائياً بين مرجعيات المسلمين؟ قطعاً لا إذ لا يمكن للإرهابيين" المسلمين" تجاوز الفيزياء التي تتجاوز أفكارهم وسلوكهم ودينهم.

غالباً ما توصم الأفكار الجريئة الصعبة التحقيق بالأفكار الخيالية. وقد يتناولها الكثيرون بأنّها نوع من الجنون أو الهرطقة المستحيلة ، مع أنّ الكثير من الأفكار التي قلبت المفاهيم الكونية قد ولدت في عقول مسكونة بالشجاعة والطموحات النبيلة المستحيلة. لا مجال لتعدادها، بل من الضروري الإشارة الى أهمّيتها، لربّما تحفّزنا الى قتل خوفنا من بعضنا البعض ونتائجه التدميرية الكاملة لبلادنا بمعانيها الروحيّة والحضارية تحت مظلّة أن تكون وحدك صاحب الدين أو الخليفة أو الكلمة:

قال سقراط منذ 2064 سنة:"يتراءى أمام عيني بعض الأشياء التي قد تكون خيالات مكلفة في نقد السلطة وهي تلقنني بعض الأمور لإرشاد البشرية". وكعادة اليونانيين مع سجنائهم، حكم عليه بتناول نبتة الشوكران أو البقدونس السام الذي تجرّع كأس عصيره بهدوء ثمناً لنطقه بالحقيقة،متّهماً بإفساد الشباب والإساءة إلى التقاليد الدينية، وخصوصاً أنه كان لديه أفكاره الخياليّة الخاصة في الحكام الذين يجب ألاّ يكونوا من الذين يتم انتخابهم من الناس بل من الذين يعرفون كيفية التصرّف العادل والنزيه في أثناء الحكم.

ومنذ 471 سنة، قتلت الكنيسة كوبرنيكوس (1473-1543) فقط لقوله بكرويّة الأرض ودورانها على ذاتها وحول الشمس، مجادلاً في تحدي الفكر الديني المسيحي ومنزلاً الأرض من عرشها المقدس كمركز للكون، مما انعكس بديهياً على مكانة الإنسان عامة والحكّام وسلطاتهم خاصة في هذا الكون، حيث صار الكائن العاقل عادياً مثل باقي الكائنات الأخرى الموجودة على كوكب صغير أو واحداً من بين مليارات المليارات من الكواكب يحتل موقعاً لا أهمية له في هذا الكون المرئي.

وقال غاليلو غاليله (1564-1642):"إن الكتاب المقدس يعلمنا كيف نتّجه إلى السماء، لكنه لا يقول لنا كيف هي السماء وما هي حقيقتها". وإشتهر عنه مواجهاته الشهيرة مع سلطات الفاتيكان العليا عندما نبّه، في القرن الخامس عشر، مجابهاً المحقّقين بالإشارة إلى الهوة السحيقة التي تفصل بين علوم الدين المسيحي وعلم الفلك.كان يردع الثيولوجيين الراسخين في الدين بعدم تفسير نصوص الكتاب المقدس La Bible في عهديه القديم والجديد على هواهم ووفقاً لمصالحهم وسلطاتهم الدنيوية على حساب الجهلة من المؤمنين والفقراء. وقعت أفكاره حول مسائل هي في قلب الخلافات الفكرية بين علماء الفلك والكنيسة الكاثوليكية.وأجبرته محاكم التفتيش أن يعلن ندمه وتراجعه عن فكرة مركزية الكون وحركة دوران الأرض حول الشمس، وبأنه على" ضلال"،لكنّه أطلق عبارته الشهيرة في عمله " حوار":" ولكنها تدور e pur si move".

وعندما نشر إسحق نيوتن(1642-1727) نظريته في تحليل النور وفي قانون الجاذبية العامّة أوالثقالة الكونية La gravitation Universelleسنة 1687 بسبب ألم أحدثته تفاحة وقعت فوق رأسه اتهمته الكنيسة فوراً، بالرغم من تدينه، بأنه مروّج شديد الخطورة للفكر الإلحادي في حين أن نظريته شرحت ببساطة كلّية آلية حركة الأرض وباقي الأجرام السماوية وفقاً لقانون الجاذبية. ومن بعده أعلن ألبرت آنشتين( 1879-1955)عن إدراكه الكامل للخالق المتجلّى عبر الحركة الإنسجاميّة الهائلة الموجودة المشروعة في أبسط أشياء العالم وحركيته ، وليس برمي بؤس البشر وإخفاقاتهم وأخطاءهم على الخالق المتدخل بكل صغيرة وكبيرة في حياتهم أوالمتحكم بمصيرهم بإقتصاص وسادية وعنف وحرائق لا تنتهي ولا مثيل لها حتى الوصول الى زمن القيامة كما ورد في العهد القديم الذي دمغ الفكر البشري بصورة الجبّار الذي لا غاية له سوى تعذيب مخلوقاته. وطرح فكرة تداخل الزمان والمكان ومدى إرتباطهما عضوياً أو مدى تحول أحدهما للآخر، وهذا ما قاد العلماء في ما بعد إلى فكرة الإنفجار العظيم Big Bang التي أدرجت كخطوط علمية لجغرافية الكون المرئي. ما يزال العلم، يصارع العقل حتّى اليوم، يبحث في الأسباب التي أدت إلى حدوث هذا الإنفجار العظيم الذي أبقى على تلك الهندسة العظيمة غير المدركة من القدرة البشرية. ولهذا يجيب أي عالم لدى سؤاله عن إيمانه بسؤالٍ آخر هو: كيف تسأل أو تتحدّث أو تحكم أو تقتل أو تدين وتصلب وتفجّر بما لا تدركه ولا تفهمه ولا تحوقه ولا تعنيه. فالإيمان به لا يمنحك كإنسان الحق به.

هل تحفّز تلك اللمح للتفكير ولو للحظة عابرة مدى دوران العالم الإسلامي في مفاوضات النووي بين إيران والغرب التي صار دورانها يشبه المفاوضات المزمنة مع الغرب و"إسرائيل" في معضلة فلسطين؟ عقود حافلة بالإخفاقات والتردد والخصومة والتناقض والتعثّر والإخفاقات والفشل والعقوبات والمحاصرة والمصالح والدماء والحروب القاسية مقابل أوهام النجاح الطفيف والتوازن والتنسيق والتفاهم المؤقّت والمراوحة والعلك والإستقرار النسبي والتشرذم والإنقسام وهذا ما يتجاوز الموت. أليس هناك من فكرة بسيطة شجاعة نبيلة في الحوار الإسلامي الإسلامي تخرجنا من كهف إفلاطون المستبدّ بوجودنا، والذي تجري في داخله الكثير من المجادلات الإسلامية والإتّهامات والتهديدات ، وهي على تواضعها، وعظمة الأمثلة الكبرى التي أوردناها من سقراط الى آنشتين، قد تكون جديرة بالتحقيق وصدم اللغو العالمي في هذه النقطة الغنيّة ديناً ودنيا من العالم المسطّح الجديد؟