العمليّة النوعيّة الإسرائيليّة في ​القنيطرة​ تمتمة لارتجاج بنيويّ كبير، يتخبّط به الكيان الإسرائيليّ، وهو تخبّط موجع للغاية نتيجة التغيير الاستراتيجيّ في قواعد اللعبة على المستوى الأميركيّ، وبالتحديد على مستوى قراءة أميركا لجوهر الصراع في المنطقة وإحساسها الموضوعيّ، أن إمكانيّة اتساعه يهدّد الأمن الكونيّ بصورة جليّة ومباشرة.

ليس التغيير في قواعد اللعبة تعبيرًا عابرًا بحدود تكيتكيّة جامدة ومحدودة، وبخاصّة مسألة الاتفاق مع ال​إيران​يين. بل هو استراتيجيّ عبر عنه الرئيس الأميركي باراك أوباما شخصيًّا حين علا صوته قائلاً بأنّه سيضع فيتو على الكونغرس الأميركيّ بهالته الجمهوريّة، إذا ما اتخذ قرارًا بفرض عقوبات على إيران. من هي إيران؟ هي الكيان الوجوديّ الخطير على أمن إسرائيل بحسب القراءة الإسرائيليّة، وأوباما نفسه عوقب بفوز الجمهوريين بسعي يهوديّ واسع، فكيف لا يكون أوباما نفسه أكثر من إيران هدفًا إسرائيليًّا على المستوى الميدانيّ في هذه العمليّة النوعيّة، وهو الذي سلّم تسليمًا كبيرًا ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد على رأس النظام واستكمل التسليم بتصريح الناطق بوزارة الخارجيّة الأخير فريديريك هوف، حيث قال بأنّ الأسد سيبقى في السلطة ولا حلّ سياسيًّا من دونه.

الاتفاق الإيرانيّ-الأميركيّ هو المستهدف، ولكنّ أوباما نفسه بات هدفًا بعد التغيير في قواعد اللعبة. ففيها تبدّل المشهد من احتضان لا محدود للإرهاب التكفيريّ، إلى حرب تُشَنّ عليه، وإسرائيل على هضبة الجولان تتماهى معه بل تقوم باحتضانه وتغذيته واستعماله كورقة ضاغطة من الجولان إلى حدود البقاع الغربيّ في لبنان. ومنذ شهرين ونيّف، عاش اللبنانيون بصورة عامّة والدروز بصورة خاصّة تهديدًا مباشرًا من هذا التماهيّ التكفيريّ-الإسرائيلي على تخوم البقاع الغربيّ، وهي بالعمق الجغرافيّ امتداد لجبل الشيخ وهضبة الجولان. "حزب الله" لم يتواجد في تلك البقعة من باب الاستكشاف فقط، بل من باب استنباط الرؤى العامدة على حماية تلك التخوم، وتمزيق هذا الرباط والوصال بين إسرائيل وتلك القوى التي تحاول فرض معادلات جديدة في الصراع وفي المنطقة. حتمًا ثمّة رصد لوجود الحزب في القنيطرة، وإسرائيل تعرف أنّ وجود الحزب في سوريا ساهم جذريًا وعموديًّا بتثبيت الرئيس السوري بشار الأسد في موقعه، وقد حمى الحدود اللبنانيّة-السوريّة من الانهيار الفظيع، وأثبت بهذا الموقع بأنّه ضرورة استراتيجيّة للمكونات اللبنانيّة...

لكن لا بدّ من الانتباه، وكما قال مصدر سياسيّ متابع، أنّ عمليّة إسرائيليّة ونوعيّة كتلك، قتلت قادة في الحزب، لم تنطلق فقط من رصد إسرائيليّ، ولكن من خرق أو حركة تجسّسيّة استخباريّة لا بدّ للحزب أن يدقّق بعناصرها وهو الموصوف بدقته الشديدة. إن استهداف رجاله في القنيطرة بمدلولاته الخطيرة استكمال واضح لاستهداف قادة للحزب في قلب دمشق والضاحية الجنوبيّة. لكنّ السؤال المطروح بشدّة ماذا تحاول إسرائيل أن تقول في هذه العمليّة النوعيّة والخطيرة؟

تتسع الآفاق كثيرًا في الأجوبة أو محاولة استقراء الإرادة الإسرائيليّة. معظم المتابعين والمحللين الاستراتيجيين، يدركون بأنّ إسرائيل تعرف نمط الحزب في التفاعل مع عمليّة كهذه، وبخاصّة عندما يتمّ استهداف نجل عماد مغنية جهاد مغنية وآخرين يعدّون من أهمّ كادرات الحزب. لندخل بهذه العمليّة وتداعياتها في صراع واضح الآفاق بين إرادتين. وفي التقابل بينهما، إنّ "حزب الله" بمراده هو، لا يريد حربًا مباشرة بل يريد ردع إسرائيل بمفهوم توازن الرعب، وهو مفهوم راسخ في المواجهات والصدامات، وقد أهّله هذا التوازن للدخول في الصراع داخل سوريا بعد اكتشافه أنّ تلك القوى التكفيريّة تظل على الأرض السوريّة واللبنانيّة والعراقيّة زرعًا إسرائيليًّا، تستعملها إسرائيل لتفتيت المنطقة وترسيخ مفهوم التقسيم الذي يجعل إسرائيل ممدودة من النيل إلى الفرات بهذا التفتيت.

وفي هذا السياق إنّ "حزب الله" وكما قال أمينه العام السيد حسن نصرالله في خطاب له، يحارب إسرائيل في سوريا، كما حاربها مباشرة في لبنان خلال حرب تموز سنة 2006. وبتفسير متصل، إنّ المجتمع الأميركيّ فهم خطورة هذا التماهي بالسعي إلى قلب العالم من منظور إسرائيليّ لا يحترم ولا يقيم وزنًا لمفهوم التفاهم مع الأميركيين، فانقلب على ذاته مدركًا أن التوازن في الشرق الأوسط هو المطلوب في ظلّ استفحال القوى التكفيريّة ودعم إسرائيل لها وتوظيف هذا الدعم لزعزعة أسس الأمن العالميّ، ليتخلّى عن بعض المعايير ويدرك بأنّ التوازن يتطلّب التفاهم مع إيران وروسيا، وليس مع السعوديّة التي أخفقت بل تمادت في رعاية هؤلاء كما قطر وتركيا، وهذا التفاهم يرتكز على تعويم النظام، فلا حلّ سياسيًّا من دون بشار الأسد وبقائه.

إسرائيل بمفهومها الوجوديّ وإرادتها، تعتبر أن الأميركيين أضرّوا بمصالحها وامتداد تلك المصالح في المدى العربيّ والخليجيّ، باتفاقهم مع إيران الذي بات حالة ثابتة في إرساء مفاهيم جديدة على مستوى المنطقة. فعمدت على ضرب القراءة الأميركيّة بهذه العمليّة في القنيطرة متوسّلة بإرادتها هي، حربًا شاملة تعصف بالمنطقة، من الجولان إلى جنوب لبنان بل لبنان كلّه، وهي المدركة أنّ المنطلقات اللاهوتيّة عندها في مفهوم الموت والحياة، تبيح الخوف وتلفظ الحرب بسبب الخوف من العدم بعد الموت، إذ لا حياة بعد الموت في اللاهوت العبريّ، بعكس اللاهوت المسيحيّ القائل بالقيامة بعد الموت، وبعكس المنطلقات "الجهادية" التي قامت عليها المقاومة، وهي منطلقات قياميّة ترتقي إلى الحياة في الجنّة بعد الموت في كنف المهدي المنتظر.

إسرائيل تريد حربًا على الرغم من هذا المفهوم اللاهوتيّ المرعب، بغية تمزيق هذا الاتفاق، وإحداث ثغرات في جيو-استراتيجيات بدأت تنمو من تجليات هذا الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ. لكنّ "حزب الله" لن ينجرّ إليها لأن أولوياته تمزيق هذا الترابط بين إسرائيل والقوى التكفيريّة على أرض سوريا. غير أنّ "حزب الله" سيعكف حتمًا على ردّ موجع بعمق استراتيجيّ يسقط رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو انتخابيًّا في جحيم نفسه، ويشل القدرات الإسرائيليّة على التمدّد.