استقالت الأحد الماضي من مجلس إدارة مؤسسة زوجها بيل كلينتون وأعلنت بالخطّ العريض: "أنا مرشحة للرئاسة". أعلنتها هيلاري كيلنتون رسميًا على موقعهاتحضيراً للانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر 2016 في ثاني محاولة لها للفوز بالرئاسة، وكأنهاتفرّج عن كربها الدفينوالملحاح الذي يسكنها لأن تريدأن تصبح أول امرأة تحتل المكتب البيضاوي في حال الفوز.يسكنها، بالطبع، لأنّ الجمهوريون راحوا ينكأون جراحها فوراً مشيرين الى قضية مونيكا لوينسكي والفساد الذي لحق بزوجها فغاب ذكره. ربّما النفاذ إليها من هذا الباب المحرجوالمرّ الذي دمغ مسيرتها قد يضاعف من همّتها، ويجعلطريقها هذه المرة يبدو أكثر سهولة، وهي المرأة التي تكاد تعرف أو تحفظ أعداد مسامير الأبواب في البيت الأبيض كما يقال. عاشت في ذلك البيت ثماني سنوات الأمر الذي لم يحققه أي مرشح آخر. لا جديد تحت شمسها أبداً سوى التأكيد على العائلة الأميركية. كم هو قاسٍ جرح الكرامة في العائلة التي ترسّخت بذرة القداسة في حضارة المجموعات والمجتمعات وسلالم القيم؟ الإعلان إذن، معروفومؤكد ومرتقب لأن الأميركيين، في رأي هيلاري، هممن أكثر الشعوب النهمة بحثاً عن بطلهم اليومي وتريد أن تكون بطلتهم لكلّ يوم. الجديدهنا إستحالة الفصل بينحياتها وبين معضلة السلطة والمواقع. فالمرأة قطعاًحبلت بفكرة ترشّحها بعدما خدش كبرياؤهامراكماً في رأسها جبالاً من التحدّيات بعدما لازمت زوجهاالرئيس السابق بيل كلينتون في البيت الأبيض.ومع أنّها لم تخبر الحياة العسكرية، راكمتعلى مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية والشخصي تجارب قويةوخبرات واسعةعندما شغلت سابقًا منصب وزيرة الخارجية، وكانت عضوًا في مجلس الشيوخلم يحظ بها مرشح آخر إذ التقت هيلاري كلينتون معظم الرؤساء ورؤساء الحكومات في العالم والملوك، وتعاملت مع أزمات تبدو وكأنها ما زالت في مهدها من ليبيا الى العراق ولبنان وروسياإلى ظهور تنظيم داعش والحربين في سوريا وأوكرانيا والفوضى في اليمن. صحيح أنّ أوباما الذي يدوّر أصعب الزوايا حتّى مع كوبا قبل أن يباشربحزم حقائبه، يرى هيلاري "بأنها ستكون رئيسة ممتازة"، ويعرف بأنّ محصّلة آدائهما معاً فاشلة في نظر الجمهوريين ممّا يجعل إكمال مسيرة الديموقراطيين مستحيلةمن دون التفكير بولاية ثالثة لأوباما.

نخرج من هذا الحيز الضيق في إنتظار مستقبل يقف فيه أحفاد العرب للكشف وربّما لمحاسبة الولايات المتحدة في شأن تلك السياسات الجهادية التي راحت تورث العرب والمسلمين تلك الحفلات المتلاحقة من التدمير والإرهاب بدءاً من مغامرات التلال والكهوف في جبال أفغانستان.ولسنا بحاجة الى الإجتهاد لكشف علاقة الإخوان المسلمين بالغرب وخصوصاً بريطانيا أو لعلاقتهم بمعظم هذه المشتقّات الإرهابية المتنوّعة،لسبب بسيط لا يحتمل الفرضيّة، وهو أنّ الشرق العربي والإسلامي كان وما زال كلّه على طاولات المشارح في الغرب وأميركا، وسنبقى محكومين بهم الى حدٍّ بعيد.كان التقدير الأميركي فى أفغانستان يقوم على أن الولايات المتحدة لا يليق بها أن تظهر علانية هناك ، وإنما الأفضل أن تنأى بصورتها بمسافات كافية، وتترك المعارك للمسلمين يخوضونها باسم "الجهاد الإسلامى" ضد "الإلحاد المادي". كثيرة هي الكتب والمصادر الغربية التي كشفت المستورات حول الإسلام والنفط والصراعات الكبيرة فى وسط آسيا وقد يكون أفضلها كتابالصحفي الأميركي جون كولى لعنوانه المعبّر"الحروب غير المقدسة: أفغانستان، أمريكا، والإرهاب الدولي"، الذي طبع أربع مرّات منذ ال1999.

ويقع كتاب“Hard Choices” أو «الخيارات الصعبة» لهيلاري كلينتون الصادر في حزيران 2014ليس جواز مرور يحقّق تطلّعهاالى رئاسة البيت الأبيض بعد إنتهاء ولاية أوباما بل لمضمونه الذي أثاركرامة العديد من المحلّلين والمعلّقين العرب، وخصوصاً المصريين منهم، الى درجة جعلت كلينتون تعبّر عن ضيقها من هؤلاء بقولها: ”I’m done with crazy Egyptian conspiracy theories” أو لقد "مللت من ترداد المصريين لنظرياتهم المجنونة عن المؤمرات".حمل النص، ربّما، أكثر ممّا يحتمل في موضوع الروابط الواضحة بين الإرهاب الداعشي والإدارة الأميركية خلال فترة تولّيها للسياسة الأميركية الخارجية بين 2009 و2014، لكنّ هذه القراءات المتناقضة كانت مفيدة وتؤشّر الى القلق من الإرهاب الذي حلّ بالمنطقة العربيّة بعدما تزامن نشره مع إنتشار إرهاب "دولة الخلافة" داعش وتوسّعها في رقعة بلاد الشام والمسلمين الى ذروة القتال بين السنة والشيعة كما الصراع بين الدول العربية أو بينها وبين إيران. وباتت الهموم والخطب تغالي الى درجة التنظير المستورد عن توازن التهديدات بين داعش المتمددة نحو البقاع والشمال وحزب الله في لبنان الذي يقاتل الى جانب النظام في سوريا.

تناولت الوزيرة كلينتون في القسم الخامس من كتابها مواقفها من أحداث الربيع العربي والثورات المتعاقبة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ومواقفها من الاقتتال في سوريا الذي كان منصبّاً من قبلهاعلى تسليح المعارضة السورية والتي كانت منكرة ومفتتة بل غير موجودة في دوائر القرار في البيت الأبيض أو مراكز التقارير لدى المخابرات المركزية الأميركية. ولم تغفل كلينتون تناولها لأسرار السياسة الإيرانية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومسار البحثعنالهدنة التي بقيت تلوكها الهشاشة.يمكن إختصار هذا الموقف اليائس من العرب والمسلمين في الكتاب، بإشارتها الى أنّك إذا كنت تتطلّع أو "تدعو الى إصلاحات في الشرق الأوسط، فهو أمر يشابه أن تضرب رأسك بالحائط". لكنها لم تخف قطّ تهاون الدبلوماسية الأميركية حيال مراعاتها للإخوان المسلمين والتضخم الذي كان ملحوظاًومسموحاً به للإرهاب بما يعنيه من مقاتلين وجماعات وتدريبوتسليح جعلت التشظيات بين سكّان تلك المنطقة متنوعة ومتفاقمة الى حدود ضياع الخيارات.وجاء دخول أميركا الحرب في العراقوليبيا وسوريا وخصوصاً دبلوماسياً في مصر بعد ثورة 30 يوليو التي أنهت حكم الإخوان ليجعل "الخيار الحقيقي لمصر والدول الأخرى أقلّ صعوبة... لكن البدائل المتبقيّة كانت، في نظرها، نادرة تنحصر في مشاهدة المنطقة العربيّة والإسلامية تغرق أكثر في الرمال".

هكذا إذن "مسيز" كلينتون: مستقبلنا الغوص أكثر في الرمال؟

لكنك تناسيت أنهار الدماء على شواطيء بحيرة المتوسط يتحلّق حولها أهلي.