ان المراقب اليوم للتطورات والمعالجات التي تطبع ملفات اقتصادية في البلد يدرك بسهولة اننا لم نغير بعد عقلية التعامل مع القضايا الاساسية في اقتصادنا الوطني، حيث نعالج الامور من زاوية ضيقة ونرفض تفعيل سبل متطورة وافق اوسع، والتطلع الى حلول ناجحة في العالم واعتمادها.

ما زلنا نصر على حجب اعيننا عن اي تطور او حلول فاعلة اعتمدتها الدول الاخرى. ونرفض استيراد التقنيات المتطورة وتطبيق ما جرى اختباره واثبت فاعليته، بل نصر على استنباط حلول غريبة وعجيبة يكون جوهرها الاساسي هو الحصرية. فاصبحنا البلد الرائد في ابتداع الحصريات ورعايتها.

ففي موضوع النفايات ، لم يكن الخلاف الاساسي ضد شركة معينة او في اداء شركة معينة، او كما قيل مرارا عن وجود بعد سياسي لاستهداف الشركة الحالية، ان العلة الاساسية هي في اعطاء حصرية طويلة الامد لشركة واحدة مما يضعها في خانة الحاكم بامره ، فلا يُفرض عليها مثلا اعتماد اسعار تنافسية فيصبح المستهلك، وفي هذه الحالة هي البلديات المغلوبة على امرها، اسيرة وتابعة للشركة، بدل ان تبذل الشركة جهودا لارضاء المستهلك، وبدل ان يكون المستهلك هو الملك يتحول في لبنان الى وقود لتحقيق ارباح لشركة مُنحت امتياز الحصرية .

فما الذي يمنعنا اليوم من فتح المجال امام شركات عدة لتدخل في منافسة صناعة النفايات، شركات تتعاطى خدمات مختلفة ايضا، فمن قرر انه يلزمنا شركة وحيدة للقيام بالجمع والكنس والمعالجة والطمر والحرق واعادة التدوير؟ ما المانع من وجود شركة تتعاطى اعمال الكنس فقط مثلا، واخرى متخصصة باعادة التدوير او الحرق او الطمر او الفرز الخ... نضع ضوابط عشوائية ولا نترك للسوق الحرية لأن تثبت بنفسها الشركة الناجحة وتُخرج وحدها الشركة الفاشلة، فنختار عن المستهلك بدل ان نمنحه حرية الاختيار. وعندما بدأ التباحث مع مجلس الانماء والاعمارلايجاد حلول لملف النفايات طلبنا بكل وضوح ايجاد حلول بعيدة عن الحصريات الا ان مطالبنا لم تلق الآذان الصاغية، وما زلنا مستمرين بتكريس الحصريات في هذا الموضوع حتى اليوم.

يفترض فتح المجال للشركات الخاصة لتتنافس على تقديم افضل الخدمات باسعار تنافسية، وفتح المجال امام من يريد معالجة نفاياته باختيار السعر الافضل، وهذا لا يجري على الطريقة اللبنانية بالحصرية والمحاصصة. كذلك يجب وضع ضريبة على الطمر وبالطبع شركات الحرق تقبض ثمناً ممن يريد التخلص من النفايات، وبما ان هذه الشركات ستدفع سعرا للحرق او الطمر ستحاول تسهيل عمليات التدوير وحتى دفع مبالغ مقابل التدوير لمصانع التدوير من اجل تجنب دفع ضريبة الطمر وكلفة الحرق، وهذا يخلق صناعات جديدة واعدة وفرص انتاج واختصاصات جديدة وافكارا مبدعة لمحاولة استقطاب المستهلك، ويخلق أيضاً سلسلة متكاملة يفرض فيها الناجح نفسه من دون ان يكون له افضلية الحصرية التي ستعوّده في نهاية المطاف الكسل. فيصبح لكل بلدية كامل الحق باختيار ما هو افضل لها في معالجة النفايات، لا ان تُقتطع من صندوقها مبالغ من دون ان يكون لها الحق بابداء الرأي. فتقبض مستحقاتها وتدفع ما عليها للشركات التي اختارتها.

وفي موضوع آخر لافت للنظر هو شركة المعاينة الميكانيكية، حيث نصر على تحميل الشركة اكثر من طاقتها من خلال عقد التلزيم وشروطه غير المنطقية، وبالرغم من محاولة الشركة المضنية الا ان الازدحام اليوم، لا يمكن السيطرة عليه ويضطر المواطن الى تخصيص يوم كامل لإجراء عملية بسيطة من هذا النوع، وكأن اعصاب ووقت المواطن لا قيمة لهما، فتصل طوابير الانتظار الى مدى غير مسبوق، وتزدهر مهزلة الكاراجات المنتشرة حول المعاينة الميكانيكية لتصطاد زبائن تساعدهم على ترقيع حلول لضمان النجاح في اختبار المعاينة. ان الملامة لا تقع على الشركة التي تتخبط لتقديم الخدمات، انما العلة في جوهر التلزيم وحصريته، ولن يتغير الكثير حيث ان التوجه اليوم هو لاستبدال هذه الحصرية بحصرية جديدة واكثر شمولية .

وبالرغم من كل المشهد المؤسف، نصر على الحصرية، بدل ان نحرر هذا القطاع ونترك الخيار لكل من يريد انشاء مركز معاينة في كافة المناطق من القيام بذلك شرط الحصول على ترخيص من الدولة واضح الشروط ودقيق مع امكانية خسارة الترخيص في حال عدم الالتزام بالشروط، وهذه وسيلة اخرى لخلق العديد من فرص العمل، فيختار كل مواطن المركز الذي يريده، ويضطر مركز المعاينة في هذه الحالة الى توفير خدمات اضافية مثل الاستقبال وتقديم القهوة لزبائنه، فتتحول الصورة الى صورة حضارية حين تدخل المنافسة على الخط. والتكاليف التي يدفعها المواطن يقتطع منها جزء للخزينة العامة والباقي يتقاضاه المركز. بالطبع يستطيع مركز المعاينة الحائز الرخصة تقديم خدمات مثل الميكانيك والتنظيف وغيرها. الن يساعد هذا الحل على توفير الراحة للمواطن بدل ان يشعر بانه يتعرض للاستعباد في كل مرة يضطر فيها للخضوع للمعاينة الميكانيكية؟ ان هذه الطرق معتمدة في اكثر الدول الاوروبية التي تسعى إلى خلق تنافس لتطوير الخدمات.

واخيرا، لماذا الاصرار على التمديد لشركتين للخلوي؟ ما دام التنافس ممنوعا بين الشركتين، والاسعار متشابهة والخدمات متشابهة، اذا اردنا ان نطبق حصرية مقنعة فربما من الافضل ابقاء شركة واحدة، فنوفر العديد من اللاقطات اللاسلكية والمحطات وتكاليف الصيانة والعديد من الوظائف الوهمية بدل الوظائف المنتجة. والا فلنتخذ القرار الجريء بتحرير قطاع الاتصالات ونترك المجال لشركات عدّة لتتنافس على الخدمة الافضل والسعر الافضل، ونترك للسوق تحديد الشركات الجديرة بالبقاء، الا يحق للمواطن اللبناني ان يشهد عروضا وحسومات لاستقطابه كما يجري في كل البلدان، التي تحاول استقطاب المستهلك بشتى الوسائل؟ اما في لبنان، فيشعر المواطن بانه اسير لشركتين بغض النظر عن مستوى الخدمات، او الارسال الرديء والاسعار غير المنطقية، والمضحك انه حتى العروض الوهمية تكون موحدة بين الشركتين، وهذا مخالف للقانون في كل بلدان العالم.

نعم ان الاصرار على الحصرية والاحتكار يأتي بالدرجة الاولى على حساب المستهلك والمواطن اللبناني، والاغرب ان المواطن يبقى صامتا على هدر حقوقه يوميا، وتحميله تكاليف مضاعفة بسبب اصرارنا على تقديس الاحتكارات ومنح امتيازات مخالفة للقانون. الا يستأهل هذا الموضوع النزول الى الشوارع لاستعادة حقوق المواطنين الطبيعية، ام ان المواطنين لم يدركوا بعد المبالغ الحقيقية التي يدفعونها زيادة بسبب خسارة حقهم كمستهلكين بالدرجة الاولى. وربما اصبح المواطن مقتنعاً بان امراء الطوائف يجب ان يمولوا صناديقهم من هذه الاحتكارات الوقحة؟