منذ نشأتها، كانت "​جبهة النصرة​"(1)الولد المدلل لبعض دول الغرب ودول العرب، وقد اثبتت ان قدراتها العسكرية لا يستهان بها بسبب التنظيم الذي تميزت به عن غيرها، وانضمام عناصر مقاتلة اليها بشكل سريع.

ومع ظهور تنظيم "داعش" وانشقاقها عنه، والدفع المعنوي والاعلامي الكبير الذي حظي به، بات داعمو الجبهة يقدمونها على انها الوجه الجيد مقابل الوجه الارهابي والاجرامي لـ"داعش". لكنّ الممارسات التي قامت بها "جبهة النصرة" في لبنان وسوريا والعراق، قطعت الطريق أمام كلّ من حاول تجميل صورتها وتحسين مكانتها في نفوس المواطنين في المنطقة والعالم.

حاولت الجبهة أن تركب موجة "داعش" في سياسة الترهيب، فقتلت اسرى ومخطوفين، وارسلت تهديدات صريحة وعلنية الى معارضيها بأن مصيرهم سيكون الموت، واستباحت المحرمات الدينية والاخلاقية. ولكن، ومع تغيّر الاستراتيجيات، قررت الجبهة التزام مسار جديد على ما يبدو، فخلعت عنها رداء الذئب، ولبست ثياب الحمل لتقدم نفسها "منقذة للاسلام والمسيحيين" في المنطقة.

هذا ما بدا عليه حديث امير الجبهة في سوريا ابو محمد الجولاني، الذي وزع عبر المقابلة التي اجراها(2)-لم يتوجه بأي تهديد او وعيد الا للنظام السوري و"حزب الله"- "الورود واغصان الزيتون" على العلويين والمسيحيين والدروز وحتى الاميركيين والغربيين في سوريا والمنطقة.

اعتمد الجولاني سياسة الحمل، وحمل غصن السلام عارضاً اياه على الآخرين، متعهداً حتى بحماية العلويين ولو انهم قاتلوه وهم "طائفة خارجة عن دين الاسلام" ولكن "اذا عادوا الى صدر الاسلام وتركوا الرئيس السوري فإننا سننسى الثأر".

نعم، هكذا وبجملة واحدة قرر الجولاني ان يعفو عن العلويين وينسى انهم "تسببوا في مقتل ما يقارب المليون من اهل السنة في الشام"، كما ارسل رسالة مطمئنة الى الاميركيين والغرب مؤكداً ان زعيم "القاعدة" ايمن الظواهري طلب منه عدم التعرض لاوروبا واميركا ولو ان اميركا "تدعم نظام بشار الاسد".

ليس من السهل فهم هذا التناقض الكبير الذي اطلقه الجولاني في حديثه، ولكن عند تبسيط الصورة يمكن الاستدلال على بعض الخيوط الرفيعة التي قد توصل الى الاسباب الدفينة وراء حديثه.

سرقت "داعش" الاضواء عبر سياسة الترهيب التي تتبعها، ولم تنجح "النصرة" في حصد نجاح مماثل عبر السياسة نفسها، حتى ان "البيئة الحاضنة" التي كانت مطمئنة لها، باتت تشكك فيها ولا ترغب في الاستمرار بهذه المسيرة.

واذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، فستخسر "النصرة" كل اوراقها ولن يبقى لها اي حساب في المستقبل عند حصول التسويات للخروج من المأزق، اي ان الامر بات مسألة "حياة او موت" بالنسبة اليها ويجب ان تعزز شعبيتها اذا ما ارادت البقاء على قيد الحياة.

وقد تلقت الجبهة "نصائح" من داعميها في المنطقة والعالم بوجوب تغيير اللهجة واعتماد المقاربة الانسانية للتواصل مع الآخرين، فأتت المقابلة في هذا السياق، لكنها لم تنجح كلياً بسبب التناقضات التي شابتها وخصوصاً في ما يتعلق بحرية المعتقد والشعائر الدينية، لان كل من لا يسير بدرب الجبهة هو "مشرك وكافر" ولا يكفي أن يقول الجولاني خلال المقابلة ان "... الإتهامات بأننا تكفريون شائعة" لكي تنزع صفة التكفيريين عن مقاتلي الجبهة.

تبدو هذه المحاولة استعادة لما قام به رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات في العام 1974 امام الامم المتحدة حين قال: "... لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". اي بمعنى آخر، توجه الجولاني الى المواطنين في سوريا والدول المجاورة بأنهم ان لم يسيروا مع "النصرة" فسيسقط كلامه الجميل والمنمق وستسود لغة القتل والتهديد.

اما المعضلة التي غفل عنها الجولاني، فتكمن في كيفية التحول السريع من الذئب الى الحمل، وهل من عاقل يصدق انه اذا تغيرت الثياب، غيّرت معها ايضا الجوهر؟

ان جوهر "النصرة" هو نفسه جوهر "داعش" وجوهر الارهابيين، ويقوم على فلسفة واحدة "من ليس معي فهو عليّ" وفارق اساسي يكمن في ان "كل من هو عليّ يجب ان يهلك". فهل من يسلّم ثقته للعقارب وينام الى جانبها؟

(1)تشكلت عام 2011 في سوريا، وتعتبر الذراع العسكري لـ"القاعدة" في هذا البلد، فيما اتهمتها الاستخبارات الاميركية بالارتباط ايضاً بـ"القاعدة" في العراق. عام 2013، اعلنت الجبهة انشقاقها عن "داعش".

(2)بتاريخ 27/5/2015، بثت قناة "الجزيرة" القطرية حديثاً مع امير النصرة في سوريا ابو محمد الجولاني على مدى ساعة من الوقت.