مشاكل لبنان مع الوجود الفلسطيني المُسلّح لم تنته فصولاً بعد منذ أكثر من نصف قرن حتى اليوم، ولم ينجح توقيع "إتفاق القاهرة" في العام 1969(1)في تنظيم هذا الوجود، تماماً كما لم ينجح إلغاء هذا الإتفاق في العام 1987 في الحد من تداعياته. وعلى الرغم من المآسي التي تسبّب بها توجيه البندقيّة الفلسطينيّة إلى الداخل اللبناني على مدى الجزء الأكبر من الحرب اللبنانية، فإنّ نهاية هذه الحرب لم تحمل أيّ حلّ للسلاح الفلسطيني الخارج على سلطة الدولة(2). واليوم، يعود التخوّف من جديد من السلاح الفلسطيني المُتفلّت، في ظلّ جولات من التقاتل في مخيّم "عين الحلوة"، وفي ظلّ نموّ نفوذ الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة على مستوى أغلبيّة المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان. فهل من حل قريب للسلاح الفلسطيني داخل المخيّمات، وأيّ مُستقبل ينتظره؟

كل المُعطيات والمُؤشّرات الحاليّة تدلّ على أنّ القضية الفلسطينيّة عُموماً باتت تحتلّ مرتبة متأخّرة جداً على مُستوى الإهتمام الدَولي، حيث لا يُوجد في الأفق أيّ بوادر لمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة لإعادة تحريك أيّ نوع من المفاوضات بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. وبالنسبة إلى المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، والتي هي جزء لا يتجزّأ من هذه القضيّة، فهي بدورها ليست في المرحلة الراهنة محلّ إهتمام من السلطات اللبنانية باستثناء ما تُمثّله من خطر على الإستقرار الداخلي، ومن ملجأ لكثير من المطلوبين من قبل القضاء. لكنّها في المقابل محط إهتمام ومتابعة من قبل بعض الجهات الداخليّة التي تراقب عن كثب تبدّل موازين القوى العسكريّة داخل المخيّمات، وما يعنيه هذا الأمر من تأثير على الساحة الداخليّة، ليس في المدى المنظور ولكن في المستقبل غير البعيد.

وكلّ شعارات "تحرير فلسطين" و"مقاومة الإحتلال الإسرائيلي" باتت عمليّا بحكم المُستهلكة والمُنتهية الصلاحيّة وحتى البالية، باعتبار أنّ الواقع اللبناني الجديد في الجنوب، لجهة إنتشار قوّات دَوليّة بأعداد كبيرة وألوية عدّة للجيش اللبناني بموازاة السيطرة الميدانيّة الفعليّة-ولو المخفيّة، لمُقاتلي "حزب الله"، جعل القدرة الفلسطينيّة الميدانية للإحتكاك بالجيش الإسرائيلي شبه معدومة، خاصة وأنّ حركة "فتح" والتنظيمات المُشتقّة عنها، والتي تدور كلّها في فلك السلطة الفسلطينيّة بقيادة الرئيس محمود عباس، طوت هذه الصفحة منذ فترة طويلة. وبالنسبة إلى باقي الفصائل الفلسطينيّة والتي يقوم بعضها بإطلاق صليات من الصواريخ في إتجاه الأراضي الاسرائيلية من وقت إلى آخر، فعمليّاتها هي من جهة مُكبّلة بسقف وضعه "حزب الله" لتحديد زمان ومكان أيّ معركة مع الجيش الإسرائيلي، وهي من جهة أخرى لا تهدف سوى لتوريط الجانب اللبناني و"حزب الله" في معارك جديدة مع الإسرائيليّين أكثر ممّا هي لمقاومة الإسرائيليين.

والمُفارقة أنّ حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" اللتين كانتا في الماضي غير البعيد تحظيان بكل الدعم والتمويل والتدريب والتسليح من جانب "محور المقاومة"، صارتا اليوم محط ريبة وحذر كبيرين. والتنظيمات الإسلاميّة المُتشدّدة المُشتقّة منهما تحوّلت بدورها إلى جماعات مُهدّدة لهذا المحور، وفي موقع العداء المُطلق المُتبادل معه، بعد أن كان هذا العداء مُوجّهاً في السابق إلى "​حركة فتح​" وفصائل "منظّمة التحرير الفلسطينيّة" بقيادة الراحل ياسر عرفات، وإلى الشخصيّات التي إستلمت دفّة القيادة من بعده.

من هنا، إنّ المعارك التي يشهدها أكبر المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، أيّ مُخيّم "عين الحلوة"، بين فصائل حركة "فتح" والجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة، تحظى باهتمام كبير وبمتابعة دائمة، لأنّ أيّ تغيير في موازين القوى الحالية، لا سيّما لجهة تمكّن الإسلاميّين من بسط سيطرتهم على المخيّم، سيُمثّل تحوّلاً كبيراً على الساحة الفلسطينيّة أوّلاً، وبانعكاسات كبيرة جداً على الساحة اللبنانيّة ثانياً، وبتأثيرات خطيرة على بوّابة الجنوب ثالثاً. وليس سرّاً أنّ الجماعات الإسلاميّة المُسلّحة، خاصة تلك التي تتلقّى تمويلاً من جهات خارجيّة، تُواصل ميدانياً عمليّات تجنيد الشباب، وتدريبهم وتسليحهم، وهي تُحاول توسيع إنتشارها الجُغرافي في المخيّم، عن طريق إستمالة المزيد من المُناصرين، وعبر توفير بيئة حاضنة أوسع لها، وعبر تصفية خصومها وإفتعال المشاكل الأمنيّة معهم.

في الختام، وإذا كانت مقولة "السلاح الفلسطيني لتحرير فلسطين" قد سقطت نهائياً، وصارت بُحكم المَنسيّة والمُهملة، فإنّ تهديد السلاح الفلسطيني على الإستقرار والأمن اللبنانيّين لا ينفكّ يزداد خطورة، بسبب تراجع السيطرة العسكريّة الميدانيّة لفصائل حركة "فتح" التي هي جماعات مُنظّمة وخاضعة لسلطة مركزيّة مُوحّدة، وتوزّعها على مجموعة واسعة من الجماعات المُسلّحة الصغيرة المتعدّدة القيادات والأهداف والمشاريع المشبوهة والمعادية للجيش اللبناني ولأطراف داخليّة عدّة.

(1)نَصّ "إتفاق القاهرة" على تشكيل لجان للفلسطينيّين وعلى إنشاء نقاط للكفاح المُسلّح داخل المخيّمات الفلسطينيّة وعلى تسهيل مرور الطبابة والإخلاء والتموين للمُقاتلين الفلسطينيّين وعلى تأمين الطريق إلى العرقوب والسماح للفلسطينيّين المُقيمين في لبنان بالمشاركة في الثورة الفلسطينيّة.

(2)بين العام 1990 والعام 2005، منعت سلطة الوصاية السوريّة أيّ معالجة للسلاح داخل المخيّمات الفلسطينيّة، وبعد هذا التاريخ وحتى اليوم حالت الخلافات الداخلية دون التطرّق جدّياً إلى هذا الملفّ، بالتزامن مع تحوّل بعض المخيّمات، وفي طليعتها مخيّم "عين الحلوة" إلى حُصون عسكريّة يلجأ إليها الكثير من المُجرمين والمطلوبين من جانب السلطات اللبنانيّة.