من كتب خطاب جبران الرئاسي؟ لربما هي الجدليّة الكبرى التي لم ينجح العماد ميشال عون غداة احتفال “التيار القوي” برئيسه الجديد جبران باسيل في إشاحة النظر عنها رغم وفرة الطروح التي قدّمها الجنرال لأزمة البلد والنظام. لم يكن خطاب الرجل متوقعًا ولا مفاجئًا على السواء باستثناء خاتمة السجود. ليس مهمًا. الرجل بات رئيسًا أيًا كانت نظرة خصوم الخارج وممتعضي الداخل.

لا تبدو حال التيار هذه الأيام غريبة أو منافيةً لتاريخ عرف فيه طعم المعارضة كما السلطة وما وجد في كلا الطعمين حليفًا صادقًا لا يحمل وعدًا بيدٍ وسكينًا بأخرى. مخطئٌ إذا ظنّ عون ذلك رغم أن تساؤل “لا أفهم لمَ يحاربني الجميع” ما زال عالقًا في الذاكرة الجماعية القريبة لقاعدةٍ تحبّ عمادها وتجلّه حدّ الخوف على مصير التيار البرتقالي من بعده. مخطئٌ لأن حزب الله حتى الساعة ما زال يتكمّش بيديه الاثنتين بورقة تفاهم بلا سكاكين، تمامًا كما يفعل حليفاه المنصهران في تكتله الطاشناق المنسحب معه حكوميًا والمردة الذي غضب من دون أن يتسرّع ويهجر.

سقوط ميزان النائبين

اليوم كثيرة هموم التيار وملفاته، ومع ذلك يحاول الجميع ألا يظهروه هرمًا شأنه شأن مؤسسه الذي أنهتكه مراحل الحرب وما بعدها. ربّما لهذا الغرض، يقف ابن الـ45 عامًا أمام مفترق طريقٍ يودي في أحد اتجاهيه الى الارتقاء بتيارٍ شابٍّ متجدّد رغم أن حكاية النائبين الميزانين سقطت بعدما أتى باسيل بنائبين مقرّبين منه وغاب آلان عون عن الاحتفال المركزي، ويودي في اتجاهه الثاني الى الهلاك بسبب التنافرات التي يمكن أن تنسحب على القاعدة غير المتصالحة بعد مع خيار باسيل، والتي لا يمكن أن يلجمها سوى شخص واحد هو العماد عون طالما هو على قيد الحياة والعين الساهرة على تياره الذي ما ظنّ يومًا أنه سيشبه كرة الثلج التي تكبر وتتدحرج بلا هوادة أو توقّف.

هواجس متسابقة

قبل أن يلج التيار الى بحث الهموم المحيطة، يجد نفسه مضطرًا الى إنهاء حكاية تغيير جلده وتمريرها على خير وبأقل الأضرار الممكنة. ذاك التغيير الذي قد يكلفه الكثير من الأسئلة التي يصعب الإجابة عنها في هذه المرحلة والتي تتلبّس عباءة الهواجس المتسابقة بين رأس الهرم وقاعدته. أين كان آلان عون طالما أن لا تسوية تتمّ إلا باقتناع طرفيها وإلا لما كانت اكتسبت تسمية التسوية في هذه الحال؟ لمَ اختير نائبان مقرّبان من جبران لا من المعسكر الذي كان من المفترض أن ينافس باسيل ديمقراطيًا؟ ما مصير المتململين الذين يحاولون المغالاة في تصوير الأمور على أنها ذاهبة الى الخراب بحكمٍ مسبق على شابٍ لم يروا خيره من شرّه؟ وهل هناك انشقاقاتٌ أيًا كان حجمها أم أن حكاية تمزيق البطاقات ما هي إلا اصطيادٌ في ماء التيار العكِر؟

تحفّظات مضمونيّة

بغضّ النظر عن الاعتراض الموجود أصلاً على خيار باسيل الذي يؤكد العاملون معه طوال فترة إعداده للانتخابات أنه كان متقدمًا بأشواط كبيرة على منافسه (السابق)، فإن الخطاب الذي يبدو أنه كتبه بنفسه وهو المجيد للضرب على الأوتار الحساسّة في كلّ مناسبة، لقي بعض التحفّظات من المراقبين لا سيّما لجهة اختصاره مصير لبنان بمصير التيار ومصير المسيحيين بمصير التيار، وهو ما قد يحمله بعضهم عليه من باب ضرب الشراكة التي يتحدّث عنها التيار بنفسه ويستشرس لإرسائها داخل الحكومة. أما وقد محا مشروع الرجل كلامَه وقُبله وانحناءه وركعته، فإن مقرّبيه يؤكدون أنه “سينتهج سياسة احتوائيّة مئة في المئة وانفتاحيّة قد تفاجئ من راهن على تفرّده في القرار، على أن يترافق عهده مع نهضة ونفضة داخل التيار قوامُها الدم الجديد والطروح الجديدة التي لا تمسّ فكر المؤسّس وثوابته ولا تخرج عن سياقاتٍ عهدتها القاعدة على مستوى محاربة الفساد وصانعيه والدفاع عن حقوق المسيحيين وتمثيلهم الصحيح”.

ورقة “نكائيّة”؟

مقابل كلّ تلك الانتقادات التي تُقال علنًا أو تُهمَس في الدوائر الضيّقة، يجد الكثيرون في جبران الرجل المناسب لهذه المرحلة نظرًا الى تشرّبه من مدرسة الجنرال الكثير بدءًا بالمبادئ العامّة وصولاً الى الطباع الشرسة التي لا تستسيغ المهادنة، وليس أدلّ على ذلك سوى المواجهة العلنية التي وصلت حدّ الصراخ مع رئيس الحكومة تمام سلام والتي دفعته الى الاعتذار عن سلوكه في الجلسة التالية. قد يكون جبران في نظر العماد ليس فقط الرجل المناسب للموقع المناسب في الزمن المناسب، بل أيضًا الورقة الأكثر نكائيّة ردًّا على من تجرأ يومًا وحاول حشر أنفه في تحديد هوية رئيس التيار من خارجه. ولكن قبل هذه الفرضيّة النكائيّة، قناعة تسود منذ زمن في نفوس الكثيرين من البرتقاليين ومفادُها أن عون لا يمكن أن يتخذ قرارات “صبيانية” وما كان ليقدم على تبني خيار باسيل بثقة لو لم يكن مقتنعًا بأن هذا الرجل قادرٌ على استحداث تاريخ جديد لتيار تعب مؤسُّسه وقرر أخذ قيلولةٍ لا تواعد التنحّي.

معادلة قوّة

هذا في شؤون “الأمانة” التي أبكت عمادَها أمام العشرات من بني تياره وألبسته ذاك الوجه الحزين غير البسوم القادر على التغصّص مراتٍ عدّة في جملة واحدة. ربّما لم تكن هي الوحيدة على ما يقول عارفو الرجل، إذ إن وضع البلد برمّته يدفع لا الى البكاء فحسب بل الى الجهش بكاءً عليه. ربّما يستحق الوطن أن يبكيه رجلٌ عايش حروبه وقرفه وفساده وحكوماته المتهالكة وصفقاته المتسللة الى مؤسساته وموازناته الغائبة وحساباته المقطوعة عن النور وشوارعه المعيشية المتداعية. في الأمس قرر الرجل الا يتظاهر إلا وحيدًا وهو الخارج من جلسةٍ حكومية سارت من دونه ومن دون حليفه حزب الله. في الأمس قرّر الرجل أن يبقى علّ في بقائه أملاً يحمّله الى صهره الرئيس مع الكثير من النصائح المستقبلية. أرادها العماد معادلة قوّة في الحكومة سرعان ما ستدفع الرئيس نبيه بري الى إسقاط “لعبته” والدعوة الى التريّث، والنائب وليد جنبلاط الى تسويغ موقفه هاتفيًا كما فعل سابقًا ثمّ إرسال وزيره الشاب وائل أبو فاعور الى الرابية لينفض عباءة النيّة بالإقصاء عن جسمه في انتظار التسوية الموعودة.

خوفٌ من التصدّعات

قبل أن تفكّر في ترميم البيت الحكومي بترميم مراسيم لم تحمل تواقيع وزرائها، تفكّر الرابية في الكشف على بيتها الداخلي خوفًا من بعض التصدّعات التي قد يُحدِثها بعض الممتعضين عن وعي أو غيره. ربما على جبران أن يفعل ذلك بعدما تعب الجنرال من كثرة الجبهات التي لم تقتله ولم تقوِّه ولكنها صنعت منه رجلاً يستلذّ الآخرون بمحاربته كما يحلو له أن يقول... وصهره من بعده.