لن يروق المسيحيين أن يختار الرئيس سعد الحريري رئيسًا لهم طالما أن لديهم ألسنةً قادرة على النُطق وعقولاً قادرة على الاصطفاء ومرجعيّة قادرة على الارتقاء برئيس. حكمًا لن يروق لهم، بغض النظر عمّا إذا كان سليمان فرنجية هو “المُصطفى” حريريًا وسعوديًا، أن يفرض الحريري الغائب عليهم تسويةً من بعيد لتصل اليهم عبر الإعلام أو الهمس.

للكتل المسيحية الثلاث الكبرى في البلد موقفٌ يتبلور ولا يعد بأن يبصر النور قبل أيّ إعلان رسمي لترشيح فرنجيّة كي لا “يسوّد” أيٌّ منهم وجهه مع سليمان بكّ ومن يقف وراء ترشيحه ويدعمه. لا يريد هؤلاء أن يحرقوا المراحل، وصيغة الجمع التي تلمُّهم في هذه السطور قد لا تعكس في الضرورة موقفًا موحدًا سيخرجون به في وجه رجل المَردة غير الأعزل في السياسة كما في الشارع.

حقيقتان...

قليلاً ما تتكلّم مصادر التيارات المسيحية الثلاثة (التيار الوطني الحرّ والقوات والكتائب) هذه الأيام. قليلاً ما تخرج بموقفٍ صارخٍ يُظهِرها هزيلة في وجه تسويةٍ هي آخر من يعلم بها رغم أنها تعنيها مباشرة ركونًا الى حقيقتين أولاهما أن قادتها الثلاثة هم مشاريع رؤساء بالقوّة ورسميًا، وثانيتُهما أن كلّ ذاك الصخب الذي شهدته الأيام القليلة الفائتة إنما يتعلّق بالموقع المسيحي لا بل الماروني الأول في البلاد والأوحد في المنطقة، وبالتالي لا بدّ من انتصار منطقٍ ما رغم ضعفه ووهنه ولاوطنيته، مفادُه أنه يحق للمسيحيين اختيار رئيس الجمهورية كما يختار السُنة رئيس الحكومة والشيعة رئيس مجلس النواب.

مشكل فرنجية أم الآلية؟

بالنسبة الى بعضهم، وحسب التسريبات المحيطة والامتعاضات التي يسهل التقاطُها من بعض الكوادر والقواعد المقرّبة جدًا من متن دار الزعامة، قد تكون المشكلة في المبدأ والآلية “الباراشوتيّة” بشكل عام، تمامًا كما قد تكون في شخص سليمان فرنجية نفسه. في الرابية الأمر تائه. هي الأكثر إحراجًا على مستوى “نعم” مكلفة شخصيًا وتاريخيًا و”لا” مكلفة شعبيًا وأخلاقيًا. ففرنجية ليس حليف الأمس، وبعض الفتور لا يلغي تاريخ تحالفٍ برمّته أفضى في مرحلةٍ ما الى ذوبانٍ كليٍّ في تكتل تغيير وإصلاح ما زال أبناء المردة ينتمون إليه. ليس سهلاً على العماد ميشال عون أن يرمي كلّ هذا الوفاء المتبادل وهذه الصلة العضوية التي جمعته بابن بنشعي في محطاتٍ صعاب يوم تخلى عنه الجميع، حتى بلغت المعزّة بفرنجية حدّ تسمية عون في غير مناسبة “أباه السياسي”. حتى الساعة، المنطق يقول إن التيار سائرٌ في ترشيح فرنجية متى ثبُت لأنه يستحقّ زعامةً مماثلة، مع تحفُّظ كبير على طريقة ترشيحه بتغييب مكوّن مسيحي أول في البلد عن التسوية بغضّ النظر عن تفاصيلها. ذاك الامتعاض قد يقود التيار على ما علمت “البلد” الى إرساء معادلةٍ جديدة تقوم على التالي: فرنجية يمثلنا وسندعمه ولكن لن يحظى الحريري بالرئاسة الثانية طالما أن المفاضلة بين المرشحين المسيحيين الأربعة لم تكن لصالح الأقوى (ومعيار القوّة في هذا السياق ما هو إلا التمثيل البرلماني وانفلاشية التأييد الشعبي الذي يصبّ في طبيعة الحال في صالح التيار والقوات عكس فرنجية ذي الشعبية المحكومة بعامل الجغرافيا والساعية الى التحرّر من دائرة زغرتا والشمال الضيقة نسبيًا على زعيمٍ له احترامُ الجميع وقبولهم). تلك المعادلة-الفرضيّة تعنّ في بال بعض العونيين الذين لا يجرؤون على الغوص كثيرًا في أسلوب تعامل فرنحية مع التسوية لجهة لقائه السرّي بالحريري وهم الذين أقدموا على سيناريو مماثل يوم التقى العماد عون الحريري، ويوم عاد والتقى الخصم التاريخي لفرنجية أي جعجع لا في زيارة ترطيب أجواء بل في إعلان نيات واضح وصريح ما زالت مفاعيله قائمة حتى اليوم وآيلة الى التطوّر. علمًا أنّ أي اعتراضٍ قد تسجله بعض كواليس الرابية على اسم فرنجية نفسه وهو أمرٌ سيبقى طي الكتمان حتمًا مردُّه الى حلم عوني رئاسي لم يخمد بعد وإن أخرسه العمر الذي له حقُّه فالخيار الثاني (شامل روكز) موجود ومطروح. عدا ذلك، يجد عون أن ما يطرحه من أسئلة مشروعة لا يُحرِجه ولا يُنقِص من قيمته في الشارع المسيحي ولعلّ أوّل الأسئلة التي تتصدّر المشهدية البرتقالية مفادُه: لمَ أنا التوافقي وغير الحليف لإيران والأسد عضويًا سأرفَض فيما سيُقبَل ترشيحُ من هو كذلك؟

تكتيك الردّ القواتي

ليست الأمور على جبهة القواتيين أكثر سلاسةً. فما فرّقهم عن العونيين كل هذه السنوات أسهل بكثيرٍ مما يفرّقهم حتى الساعة عن ابن بنشعي. بالنسبة الى بعض القارئين في تكتيك الردّ القواتي، هي فرصةٌ وصفعة على السواء. فرصةٌ لسمير جعجع كي يطوي صفحة ماضٍ دموي يصعب نسيانُه بالنسبة الى من خسر أباه في أبشع الطرائق وبالتالي إظهار حسن نيّة على درب الصفح النهائي بالموافقة على ترشيح فرنجية ودعمه، وفي المقابل هي صفعةٌ جليّة ذات اتّجاهين: أولاً برئاسة حليف الرئيس بشار الأسد العلني والخصم التاريخي الذي لان يوم أعلن أنه يحترم جعجع إذا انتُخِب رئيسًا لكنه لا يمنح صوته وثقته، وثانيًا بتجاهل الحريري رأي حليفه الماروني “المفترض” والمضي في تسويةٍ استُدعِي لأجلها فرنجية وجنبلاط وسامي الجميل وبقي جعجع الذي قيل أنه رفض التوجّه الى باريس لتسجيل اعتراضه على آلية إخراج التسوية الرئاسية المزعومة. وعدا “اللطشة” الصريحة التي وجّهها جعجع أمام العدسات أمس لـ14 آذار برمّتها غامزًا من قناة تفريط الحريري بمبادئها، علمت “البلد” أن “الحكيم ألمح في أحد اجتماعات الكوادر الى إمكانية خروجه من تحالف 14 آذار وهو ما بدا محاولة إعداد نفسيّ لمرحلةٍ جديدة قد يكون بطلها الحليف الجديد عون، لا بل ذهب الى قولها صراحةً: ليس سعد الحريري من يختار رئيسي”، مع العِلم المسبق لكلا الطرفين أن في ذلك مغامرةً كبيرة بخسارة جزءٍ من الشارع لصالح فرنجية بعدما ملّ حكايا الرجلين وتلاعُبَ ميزانهما على مرّ السنين للوصول الى مثل هذه النتيجة. ولعلّ الصفعة الأقوى للقواتيين إنما تكمن في العيون المُعيِّرة التي سترمق جعجع الذي باع الحريري أحد أبرز المواقف المفصلية في التاريخ المسيحي ألا وهو التنصّل من مشروع اللقاء الأرثوذكسي والانقلاب على شبه اتفاقٍ بالسير في هذا القانون.

حراكٌ “تمايزي”

وحده “الكتائب” المتمايز يقود حركته بصمتٍ. فمن جهةٍ تشير مُعطيات الأيام الأخيرة المنصرمة الى أن التسوية اختمرت في رأس رئيسه الشاب لا سيّما بعد زيارة فرنجية له وهو ما استغربه كثيرون يومذاك وحضّهم على التساؤل عن القطبة المخفية التي ستدفع رجل الخضرمة الى زيارة سامي لا العكس. كلّ ذلك حدث على عتبة أيامٍ من توجّه الجميل نفسه الى باريس حيث كانت له محطةٌ هو الآخر مع الحريري الذي وضعه في أجواء ترشيح فرنجية. رغم أن التمايز هو عنوان الكتائب الأساسي الذي ثبُت أقله في السنوات الثلاث الماضية، بيد أن هناك ضبابيّة أقرب الى سلبية الموقف تلفّ أجواء بكفيا. فمن جهةٍ يطّرد الحديث عن سير الكتائبيين في ترشيح فرنجية لقناعتهم بإمكانية الاستفادة من موقفٍ مماثل في مرحلةٍ لاحقة أقله على المستوى الحكومي والمؤسسات، ومن جهةٍ أخرى يغمز مطلعون لـ”صدى البلد” من قناة سعيٍ غريبٍ يسجله الكتائبيون قائم على الحشد مسيحيًا لرفض ترشيح فرنجية، خصوصًا أن أمين الجميل مرشحٌ جدّي هو الآخر. ويستند هؤلاء في عدم ثقتهم بردّ الفعل الكتائبي الى زيارة وفدٍ كتائبي الرابية أمس يتقدمه الوزير السابق سليم الصايغ من دون أن يُفصَح عن جوهر سبب الزيارة بل الاكتفاء بالضرب على وتر القانون الانتخابي، علمًا أنه الوفد نفسه الذي يستعدّ لزيارة معراب.

كثيرٌ من التملّق

إذًا محصّلة رئاسة فرنجية الافتراضية في ميزان “التريو” الماروني تبقى محفوفة بالكثير من التملّق القائم على حساباتٍ دقيقة حفاظًا على خطّ الرجعة وعدم حرق المراحل لا سيما وسط فداحة صورة “خرق الصفّ” المسيحي والماروني تحديدًا ورمي كلّ الثقل الخلافي على أكهال زعمائه الأربعة الذين تقفز الى مخيلاتهم كلّ لحظةٍ صورةٌ والى مسامعهم موقفٌ يذكرانهم بأن ليس هناك في بعبدا سوى كرسيّ واحد لرئيس واحد وسيدة أولى واحدة.