أيتألمُ الرحم؟ ألَهُ مشاعرُ كتلك التي يختزنها القلب على تفاهته؟ ألهُ من جرعات الحبّ ما يكفي كي يخرج من صورته النمطيّة واستخداماته الأكثر نمطيّة؟

أيًا يكن، لن يتألم بعد اليوم. سيعود مَن ولده اليه، طفلاً انتظرته أمُّه أكثر من رحلة الحمل المعهودة. انتظرته ستّة عشر شهرًا وما خرج. انتظرته حبًّا، بشعر أو من دونه، بقلبٍ أو بثقبٍ فيه، بعاهةٍ أو من دونها، انتظرته في كلّ حالاته. انتظرته في لياليها وأصباحِها. انتظرته تحت سقف من باطون وآخر من قماش. انتظرته بلفّيةِ المولود حديثًا. لا دماء. هي مجرّد تبلُّلات دمع. لا صراخ. هي مجرّد زغاريد اشتياق. لا تأوّهات. هي مجرّد أنفاس تنقطع. أنفاس ما ذنبُها سوى تلك الصفة التي لُصِقت بها جينيًا.

في الأمس رحمٌ يفتقد تاءه المربوطة، واليوم رحمٌ يستعيدُها. هو نفسُه. مُرّة هي الحياة. في الأمر سرٌّ. ما طينة تلك الأنثى التي لا تعرف دمعَ فرحِها من حزنها؟ كيف تُجيد فعلَ ذلك؟ كيف تجيد دمجهما؟ كيف تُتقِن الكبوة والانتفاض؟ كيف تُتقِن الحبّ والحقد؟ كيف تُتقِن اليأس والأمل؟ كيف تُتقِن الشتيمة والصلاة؟ كيف تُتقِن كلّ تلك المتناقضات؟ ما طينة تلك التي تنسى نفسها برهاتٍ لتفرح لسواها؟ هل لأنها أمُّ عسكريّ جينيًا أيضًا؟ هل لأنها أمٌّ فحسب؟ هل لأنها مُتوسطيّة البشرة والعواطف والروح؟

في الأمس وبعده دردشاتٌ. لا يهمّ مضمونُها. أيُّ شيء. المهمّ أنها تراه. تلامسِه كطفلٍ وهو يخجل. لن تحرمها بزّته من ذلك. تُمعِن في ملامسته. من أجلها أزال شعيرات وجهه التي غذّتها الفرقة. من أجلها رشّ بعض العطور كي لا يخدشَ أنفَها برائحة ترابٍ غريب. من أجلها ارتشف القهوة ليلاً مع أنها تؤرقه. من أجلها لم ينم رغم ثقل الحمل. من أجلها ولِد سالمًا رغم أنه تجاوز أشهره التسعة ولم يختنق في رحم غير رحمها. من أجلها ما استراحت أنفاسُه المتقطّعة احترامًا لأنفاسِها التي ارتضت أن يزورها الأوكسيجين من أجل عودته. من أجل تلك اللحظة بالذات. من أجل ذاك العناق الذي يتداخل فيه الجسدان بلا وجلاتٍ أو حسابات.

لهذا العناق في الدار طعمٌ آخر. له مع صلابة ربّ البيت وحبس دمعه أحاديثُ ذكوريّة بطوليّة. له في البال ذكرياتُ لعبٍ ولهو. له في البال صبا يعودُ الى شعرٍ يخبّئ أبيضَه تحت الحجاب، ولصدرٍ يخبّئ خنقتَه تحت الأيقونة. له في النواصي صورٌ معلّقة عن أبٍ رحل أو أختٍ خطفها المرض أو ولدٍ لم يألف وجهَ من يقف أمامه رغم أن له من قوّة الملامسة الغريزية.

في تلك الليلة وبعدها، حكايا جمّة. حكايا لن تبدو أشبه بالتحقيق. ستكون بسيطة، ربما يجلسان على الأرض كحبيبيْن، تسأله عن روحِه، عن وزنِه، عن نظافة جسده، عما دخل معدته وما خرج منها. تسأله عن نظامه الغذائي، عن تعقيم مائه، عن مصير عاداته. تسأله عن ذاك الذي حرمَها منه وذاك الذي أعاده إليها. تسأله عن كلّ شيء، عن نفسها، عن تجعيدةٍ زادها الهمّ في وجهها، عن عينين محا الدمع لونَهما، عن هُزلِ جسدٍ ما نفعته الأمصال. تسألُه عن تغيراتٍ في كلّها. تخشى أن ينسى تفصيلاً فيها. تخشى أن ينسى حبل السُرّة، حليب ثدييها، طعمَ يديها، رائحة طهوها، دعاءاتها الصباحية. تخشى كلَّ ذلك ممن تعرفه جيدًا وقد لا تعرفه.

لن تؤرقه قهوة المساء بقدر ما سيحبّ السهر متأملاً في وجه من انتظرته في كلّ حالات السماء. لن يقبّل يدَها المنهكة. لن يشكرها ولن يعتذرَ اليها. لن يقول لها شيئًا لأنها حالُه. أمِن حالٍ تشكر نفسَها؟ أمِن حالٍ تبكي نفسَها؟ تبتسمُ لنفسِها؟ جميعهم لن يقولوا لهنّ شيئًا لأنهم لا يعيشون ما يعِشنه بالفطرة... لا يفهمون أنه لا بدّ أن يلِدن ويُكثِرن. أن يتعذّبنَ ليعِشن أمومتهنّ، شريطة أن تُكتَب لهنّ بعد ذاك العذاب سهراتٌ جديدة ودردشاتٌ جديدة وفناجينُ قهوة جديدة ما كُتِبت لسواهن في ليالي أرق لا تنتهي.

• إليهنّ.