يُخشى عادةً من ​الانتخابات البلدية​ على العلاقات بين العائلات، باعتبار أنّ التنافس الذي يحصل في بعض القرى داخل البيت الواحد لا بدّ أن يترك ندوباً وثغرات قد تحتاج لوقتٍ ليس بقصيرٍ للمعالجة، وهو ما كان تحدّث عنه صراحةً الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في خطابٍ له مؤخراً، اعتبر فيه أنّ دور الأحزاب جوهري في التقليل من وقع هذه "الترسّبات".

غير أنّ المفارقة اللافتة في انتخابات هذا العام أنّ هذه "الندوب" بدأت تظهر على الأحزاب السياسية نفسها ولا سيما الحليفة منها، لدرجة بدأ يُسمَع الكثير عن "نوايا" لدى الكثير منها لمراجعة علاقاتها ببعضها البعض بعد انتهاء الاستحقاق، لتصحّ عندها مقولة أنّ ما قبل الانتخابات لن يكون كما بعدها على مستوى التحالفات، وإن قالت الأغلبية العكس.

اهتزّ ولم يسقط...

منذ ما قبل انطلاق الانتخابات البلدية، والأعين منصبّة بشكلٍ أساسي نحو ثنائي "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​"، ليس لكونه الأكثر إثارة للجدل، بعد المصالحة التاريخية التي أبرمها ووضع حداً من خلالها لخصومة الماضي فحسب، ولكن لكون هذه الانتخابات شكّلت أيضاً "الاختبار العملي" الأول للتفاهم المستجدّ على الساحة السياسية، والذي وضعه كثيرون في إطار "ضيّق" لا يتجاوز "تلاقي المصالح" رئاسياً بالدرجة الأولى، ومسيحياً بعد ذلك.

وعلى الرغم من أنّ "التيار" و"القوات" رفعا السقف لأعلى درجاته قبيل الانتخابات، مع خروج أصواتٍ مزايدة منهما تتحدّث عن "تسونامي" و"اجتياح" وما إلى ذلك، فإنّ كلمة حقٍ تُقال أنّ "ظلمًا" لحق به في مكانٍ ما، باعتبار أنّ استحقاقاً بلديًا قد لا يكون المعيار الأمثل ولا الأنسب للحكم على تفاهمٍ سياسي من هذا النوع، نظراً لتداخل العوامل السياسية والعائلية والإنمائية في تركيبته بشكلٍ واسع النطاق، من دون أن ننسى أنّ جبل الجليد التاريخي بين الجانبين لا يمكن أن يكون قد ذاب بالمُطلَق في مختلف البلدات.

لكلّ هذه الأسباب، كان من الطبيعي لهذا التفاهم أن يهتزّ في "قطوعه الأول"، اهتزازٌ لمسه المعنيّون كما المواطنون لمس اليد، من خلال خوض كلّ من "التيار" و"القوات" للمعارك البلدية "وجهاً لوجه"، وإن بشكلٍ غير مباشر، وهو ما حصل في العديد من المناطق، وبعضها اتخذ طابعاً سياسياً واضحاً، كحال مدينة جونية على سبيل المثال، أو من خلال وقوف أحدهما على "الحياد"، عبر اللجوء إلى نغمة "ترك الحرية للمحازبين"، التي اعتُمِدت في أكثر من منطقة، كـ"حلّ وسط" بناءً على اتفاقٍ تمّ التوصّل إليه بتجنّب المواجهات المباشرة قدر الإمكان.

وإذا كان هذا "الاهتزاز" لم يبقَ أمراً خافياً على أحد، خصوصًا مع خروج بعض نواب "الوطني الحر" ليتحدّثوا صراحةً عن ذلك، كما فعل النائب آلان عون الذي وصف وقوف "القوات" بوجه "التيار" في الحدت بـ"النقطة السلبية"، فإنّ الأكيد أنّه لم يسقط عمليًا، وهو ما حرص كلّ من رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون ورئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ على تأكيده، لإيمانهما ربما بأنّ "الآتي الأعظم" يتطلب التعالي على الجراح البلدية، مهما كبُرت أو صغُرت.

تفاهمات استراتيجية سقطت؟

وفي وقتٍ استحوذ التفاهم بين "التيار" و"القوات" على "حصّة الأسد" من الاهتمامات "البلدية"، وكُتِب الكثير عن"مصيره" في مرحلة ما بعد الانتخابات، لم تبدُ التفاهمات الاستراتيجية الأخرى بمنأى عن "الرياح البلدية"، ولا سيما منها التفاهمات "العتيقة"، والتي كان يُعتقَد أنّها "عصيّة" على كلّ محاولات التفريق.

وفي هذا السياق، يمكن رصد الكثير من "الندوب" التي طرأت على العلاقات بين "الحلفاء" على أكثر من اتجاه، سواء في المحطات الانتخابية التي أسدل ستارها، أو في تلك المرتقبة خلال الاسبوعين المقبلين. ولعلّ "التباعد" الذي أفرزته انتخابات بيروت البلدية بين "تيار المستقبل" وحليفيه المسيحيين، أي "القوات" و"الكتائب"، أكثر من معبّر على هذا الصعيد، خصوصًا أنّ رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ لم يتردّد في التصويب على "الحلفاء" الذين لم يلتزموا باللائحة المدعومة من قبله، ما دفع "القوات" للردّ ولو بشكلٍ غير مباشر من خلال الغمز من أداء التيار "الأزرق" المضاد في مدينة زحلة، حيث تنصّل من لائحة الأحزاب، متحالفاً من تحت الطاولة مع رئيسة "الكتلة الشعبية" ميريام سكاف.

وكما سارع "المستقبل" لوضع الكرة في ملعب "حلفائه"، كذلك فعل "التيار الوطني الحر" الذي خرجت منه أصواتٌ "ممتعضة" من أداء هؤلاء، سواء بشكلٍ حاد كما حصل في سن الفيل، حيث حُمّل "​الطاشناق​" مسؤولية الخسارة التي تعرّض لها "العونيون"، لكونه لم يلتزم بالاتفاق، أو بشكلٍ خجول كما حصل في زحلة، حيث قيل الكثير عن تشكيل "حزب الله" للائحةٍ "مختلطة" بدل دعم اللائحة التي يشارك فيها "التيار"، وهو ما دفع الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله للقول صراحةً أنّه ملتزمٌ سياسياً وأخلاقياً بدعم حليفه، ولكنّه غير مُلزَمٍ بـ"حلفاء حلفائه"، في إشارة واضحة ولا تحتمل اللبس إلى "القوات".

أكثر من ذلك، هناك تحالفاتٌ تقليدية وتاريخية لم تستطع الحفاظ على "تماسكها" بالشكل "المثالي" الذي لطالما ارتأته، ومن هذه التحالفات على سبيل المثال تحالف "حزب الله" و"حركة أمل". فعلى الرغم من الاتفاق "المبدئي" الذي توصّل إليه الثنائي الشيعي قبيل انطلاق صافرة المعارك الانتخابية حول توزيع البلديات فيما بينهما بناءً على أسُس علمية أفرزتها المواسم الانتخابية السابقة، والذي تُرجِم في غالبية البلدات والقرى بلوائح "التنمية والوفاء" الائتلافية، وقع الخلاف في بلداتٍ أخرى، سواء في البقاع أو في الجنوب، خلافٌ وإن حرصت القيادات السياسية على استيعابه وعدم تضخيمه، إلا أنّه لا شكّ ترك "ندوباً" و"جروحًا" لا يمكن تجاهلها أو إنكارها.

المصارحة واجبة!

قبل بدء الموسم الانتخابي، أعلن رئيس المجلس النيابي نبيه بري أنّ قوى 8 و14 آذار دخلت في موتٍ سريري، إعلانٌ اختلفت القوى السياسية نفسها في مقاربته، واعتبرت أنّه قد لا يكون دقيقاً، باعتبار أنّ "الافتراق" على الملف الرئاسي لا يفسد في الودّ قضية.

ووفق المنطق نفسه، يعتبر هؤلاء اليوم أنّ "الافتراق" على الملف البلدي لا يفسد أيضاً في الودّ قضية، فللبلديات خصوصيتها وحساباتها الخاصة، والتي لا تتلاقى في الغالب الأعمّ مع الحسابات السياسية ولا سيما النيابية.

قد يكون ذلك صحيحاً، ولكنّ الأكيد أنّ هناك أزمة ثقة حقيقية وجدية قد نشبت بين الحلفاء قبل الخصوم، ومعالجتها قد تكون من أوجب الواجبات اليوم، خصوصاً انّ مرحلة ما بعد الانتخابات مفصلية على أكثر من مستوى، ولا يمكن مقاربتها في ظلّ التراكمات الحاصلة بأيّ شكلٍ من الأشكال...