يطرح الهجوم الإرهابي الذي نفذه تنظيم "داعش" الإرهابي في ​ولاية فلوريدا​ الأميركية العديد من علامات الإستفهام، لا سيما في ظل الحملات الدولية من أجل محاصرته والقضاء على معاقله في سوريا والعراق، حيث نجح في إستهداف الدولة الأولى من ضمن قائمة مدعي الحرب عليه، في الوقت الذي يهدد مختلف دول العالم ويسعى إلى توسيع رقعة المواجهة.

بالتزامن مع هذا الواقع، ينبغي قراءة هذا العمل ضمن مسار الإستحقاق الإنتخابي الأميركي، لا سيما بعد مسارعة المرشح "الجمهوري" المثير للجدل الملياردير ​دونالد ترامب​ إلى إستغلاله، عبر التأكيد بأنه يثبت صحة مواقفه من نموذج "الإسلام الإرهابي"، في حين كانت تسعى إدارة الرئيس ​باراك أوباما​ إلى إستغلال الحرب على الإرهاب، لدعم حظوظ مرشحة الحزب "الديمقراطي" ​هيلاري كلينتون​، في السباق إلى ​البيت الأبيض​.

قبل أيام، وجه الناطق باسم "داعش" ​أبو محمد العدناني​ رسالة إلى أنصار "داعش" حول العالم، بمناسبة حلول شهر رمضان، حثهم فيها على تنفيذ هجمات في أي مكان من العالم، لكنه في الوقت نفسه حدد آلية عمل جديدة، ستكون أساس المرحلة المقبلة، مرتكزاً إلى الواقع الذي يفرض نفسه، لكن محصلتها توحي بأن نسبة الرعب والخوف التي تهدد مختلف البلدان سوف ترتفع مستقبلا، ومن المفترض التنبه إلى أي خلل قد يحصل على هذا الصعيد، فالتنظيم يسعى إلى إستغلال أي نقطة ضعف لإثبات حضوره وإستمراره، بعيداً من الضغوط العسكرية عليه، مستهدفاً الدول التي تشارك بالحرب ضده، وراغباً في رفع معنويات أنصاره.

"يا أيها الموحدون، تحضّروا لتجعلوه شهر وبالٍ في كل مكان"، و"لئن أغلق الطواغيت باب الهجرة في وجوهكم، فافتحوا في وجوههم باب الجهاد"، هذه الكلمات من العدناني كانت كافية للدلالة على أن "داعش" يريد، كما في كل عام منذ تأسيسه، أن يرفع من مستوى الهجمات التي يقوم بها في شهر رمضان، نظراً إلى رمزية هذا الشهر عند المسلمين، لكنه في الوقت عينه أراد أن يوجههم نحو تنفيذ عمليات خارج الأراضي التي يسيطر عليها "داعش"، عبر الحديث عن "فتح باب الجهاد"، بالإضافة إلى الإشارة إلى أن "أصغر عملٍ في عقر دارهم، أفضل وأحب إلينا من أكبر عمل عندنا".

وفي حين شدد العدناني على أن "في عقر دار المحاربين لا عصمة للدماء ولا وجود لما يسمى بالأبرياء"، كانت الصورة الأكثر وضوحاً في الحديث عن مرحلة الحرب على العراق، قبل 13 عاماً، لناحية تأكيده بأن خسارة مدينة أو إغتيال قيادي لا تعني إنتهاء المعركة، بل على العكس منذ ذلك هي، بالنسبة له، أمر طبيعي أثبتت التجارب أنه يصب لصالح "داعش" في نهاية المطاف، "لم نهزم عندما خسرنا المدن في العراق وبتنا في الصحراء بلا مدينة أو أرض"، "أين نصر أميركا المزعوم، وأين خارطة الشرق الأوسط الجديد؟"، "الدولة الإسلامية هي من رسمتها".

من هذا المنطلق، ينبغي فهم طبيعة المعركة مع "داعش"، التي حتى الآن هناك عجز في تغطية مختلف جوانبها، لا بل هناك تجاهل لأهم نقاطها، فالقضاء على معاقله لن ينهي وجوده، بل ربما يستفيد من هذا الأمر لتحقيق إنتصارات في أماكن أخرى، أبرزها الهجمات التي تستهدف المدنيين، وبالتالي الذهاب نحو المواجهة الفكرية والإعلامية هو أساس الحرب عليه، بالإضافة إلى معالجة مكامن الخلل في الخطاب المذهبي والطائفي، من دون إهمال العوامل السياسية التي تساعده على الإنتشار، بعد أن يتحول في نظر الكثيرين إلى الحل الوحيد، فـ"داعش" لم يأت من الفراغ، حتى ولو كان البعض يضعه في سياق المؤامرة الغربية، بل هناك ما ساعده ودفع إلى إلتفاف فئات معينة حوله، بعد أن فشلت كل الطروحات في تلبية الحاجات التي يريدها.

بناء على ذلك، الخطر الأعظم ليس في المجموعات المسلحة التي يمكن القضاء عليها عندما تكون الجهود صادقة، بل في القضاء على الأفكار التي جعلت مواطناً أميركياً يذهب إلى إطلاق النار على آخرين إيماناً منه بأنه ينفذ ما يدعوه دينه إليه، وهو حكماً ليس حالة نادرة بل هناك الآلاف ممن يعتقدون ذلك، تدل عليها التوقيفات والتحذيرات في مختلف بلدان العالم، لكن هذه المهمة تتطلب قراراً واضحاً من قبل القوى الإقليمية والدولية الفاعلة بالتخلي عن هذه الورقة الخطيرة، الأمر الذي لم يحصل حتى الآن، ومن غير المرجّح حصوله في وقت قريب، فهناك من هو مستفيد منها إلى أبعد الحدود.

في المحصلة، الخطر الإرهابي يتعاظم يوماً بعد آخر، ومكافحته اليوم أقل كلفة من الغد، ولكن هل يملك العالم الجرأة على الذهاب نحو أصل المشكلة قبل فوات الأوان، بدل العمل على إستغلالها لتحقيق أهداف ومصالح سياسية باتت واضحة؟