ليس من المفاجئ ان ينتهي تنظيم "داعش" الارهابي بالطريقة نفسها التي ظهر فيها، اي بموافقة اقليمية ودولية. وليس مفاجئاً ايضاً ان يعمد الى لعب كل اوراقه الاجرامية بعد ان اصبح ظهره الى الحائط، فيعمد الى تنفيذ عمليات ارهابية في مختلف دول اوروبا والعالم.

ولكنّ المفاجئ فعلاً هو، وبكل اسف، نجاح "داعش" في البقاء حياً حتى بعد القضاء عليه عسكرياً في الفترة المقبلة، عبر الناس الذين دخل الى عقلهم وحولهم الى مشاريع ارهابية متنقلة متعطشة للفكر الاجرامي العنيف، دون ان تشاطره بالضرورة عقيدته السياسية والدينية.

وبعيداً عن السياسة، وفي وقت كانت القوى الامنية في مختلف دول العالم تستنفر لمواجهة "داعش" والمنتسبين اليه من الارهابيين، فوجئت بمدى "الغزو الفكري" الذي حققه هذا التنظيم، ليس فقط لجهة النجاح في غسل الادمغة لجذب مؤيدين جدد، بل الاهم في نشر "ثقافة الاجرام" في اوروبا واميركا على وجه الخصوص، وهذا ما تنبهت له وسائل الاعلام العالمية وبدأت بالتحذير منه.

ولعل ما حصل في الايام الاخيرة يعطي صورة واضحة وصريحة عن هذه الصورة. ففي اوروبا، انهكت المواجهات بين المشجعين المنتمين الى الدول المشاركة في كأس امم اوروبا لكرة القدم، الشرطة الفرنسية. صحيح ان الاسلحة النارية كانت مفقودة، وان الافكار السياسية والعقائدية كانت بعيدة جداً عن الاشتباكات التي حصلت، الا ان العنف المفرط فرض نفسه كميزة فائقة السلبية. ويكفي مشاهدة اشرطة الفيديو التي تصوّر ما حصل من استمرار في ضرب الناس حتى بعد وقوعهم على الارض وفقدانهم الوعي، لمعرفة مقدار خطورة وباء العنف الذي انتشر.

حادثة اخرى بالغة الخطورة ايضاً شهدتها بريطانيا، وتمثلت باغتيال النائبة البريطانية عن حزب العمال المعارض ​جو كوكس​. من المنطقي القول ان العديد من السياسيين في العالم تعرضوا لعمليات اغتيال وقضوا، وهو امر صحيح، ولكن ان يتم اطلاق النار على كوكس مرتين ثم الاقتراب منها لاطلاق النار مرة جديدة من مسافة قصيرة ثم طعنها بالسكين مرات عدّة وهي مضرّجة بدمائها على الارض، امر ليس بالطبيعي، ويعبّر عن مدى "السعادة" في استعمال العنف كوسيلة للتعبير عن رفض فكرة او شخص، مع الاشارة الى ان كوكس لم تكن في حملة سياسية او انتخابية او تطلق افكاراً معينة عن بلد ما، بل كانت تستعد لاستقبال الناخبين كموعد اسبوعي للاستماع الى مطالبهم ومشاكلهم.

اما في الولايات المتحدة فحادثة اطلاق النار في ملهى المثليين في اورلاندو من قبل عمر متين، وما روي عن "تمتّعه" بقتل رُوّاد هذا الملهى، تجسّد حالة "النشوة" في استعمال العنف والقتل كوسيلة لـ"تنفيس الاحتقان" الذي يختزنه.

الأمثلة كثيرة ولا تنحصر حتماً بهذه الحوادث، ولكن التوقف عندها مهمّ لأنّ المعني بتنفيذها هم اناس عاديون نشأوا بطريقة عادية في دول اوروبية واميركية (حتى لو تحدّر متين من جذور افغانية، لكنه ولد ونشأ في الولايات المتحدة).

لا شك ان "داعش" لعب على الوتر النفسي ونجح بشكل كبير، فتربعه على عرش وسائل التواصل الاجتماعي لفترة طويلة عبر افلامه الشنيعة بالتلذذ بالقتل، خير دليل على وصوله الى كل شاب وفتاة في العالم، ويكفي ان تؤثر طرق القتل التي يعتمدها على نسبة واحد في المئة فقط من هؤلاء، ليضمن حضوره الدائم في الدول من خلال رسائله الاجرامية التي زرعها في ارض خصبة لاناس تلقفوها بطيبة خاطر.

منذ فترة ليست ببعيدة، كان الغرب يتهم الشرقيين بمثل هذه التصرفات الاجرامية العنيفة وحصرها بهم، ولكن اليوم بات عليه مراجعة حساباته والتطلع الى مقاربة اخرى لمواجهة الخطر الذي يتهدده وهو وجود "الفكر الداعشي" في العقول، والتحضر لمعركة اقوى بكثير من المعركة الميدانية التي يمكن التخطيط لها، وهي معركة كسب الناس ومنعهم من الاصابة بهذا الوباء الاجرامي وعندها فقط يمكن القول انه تم القضاء على "داعش" قولا وفعلا، وتم الفوز بالحرب على الارهاب.