بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

والحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على أشرفِ الخلقِ وأعزِّ المرسلين نبيِّنا محمدٍ ، وعلى آلهِ الطّيّبينِ الطّاهرينِ.

اللّهمَّ وفّقنا وجميعَ المشتغلين للعلم ِ والعملِ الصّالحِ يا ربَّ العالمين.

في هذا الشَّهرِ الكريمِ، شهرُ رمضانَ المباركُ، علينا أن نغتنمَ أيامَهُ وساعاتِهِ في طاعةِ اللهِ وعبادتِهِ، كي لا نندمَ على ما فاتنا، فالنَّدمُ لا يفيدُ، والإنسانُ العاقلُ هو مَنْ يتَّخذُ الخطوةَ المناسبةَ في اللَّحظةِ المناسبةِ، والتَّمنّي يوم َ القيامةِ يكونُ في ساعةٍ لا ينفعُ معها العودةُ إلى الوراءِ، ولا استدراكُ ما فاتَ الإنسانَ في الحياةِ الدُّنيا.

هذِهِ أيَّامٌ وليالٍ تتصرَّمُ، ونحنُ نعيشُ في مجتمعٍ فيهِ الكثيرُ من المآسي والآلامِ والمصاعبِ والانحرافاتِ، ومن القناعاتِ الفاسدةِ الَّتي يحتاجُ الإنسانُ معها إلى الكثيرِ من الوعي، حتَّى يدركَ في أيِّ مكانٍ هُو، لأنَّهُ في نفسِ الموقعِ الَّذي هو عليهِ في الدُّنيا، تتشكَّلُ منهُ مشهديَّةُ يومِ القيامة. هو في نفسِ ذلكَ الموقع، وكأنَّ الدُّنيا هي مكانُ كواليسٍ لمكانٍ آخرَ يخرجُ فيهِ الإنسانُ على المسرحِ حتَّى يمثِّلَ دورَهُ أمامَ النَّاسِ. كلُّنا لا بدَّ وأن نمثِّلَ ما تدربنا عليهِ في حياتِنا في مشهديّةِ يومِ القيامةِ، حينما نجتمعُ جميعاً ونقفُ لساعةِ حسابٍ بيننا وبينَ اللهِ سبحانَهُ وتعالى.

والآيةُ الكريمةُ التي تبدأ "ويومَ يعضُّ الظَّالمُ على يديهِ يقولُ يا ليتني اتخذتُ مع الرَّسولِ سبيلا" (سورة الفرقان، الآية 27)، فالظَّالمُ يومَ القيامةِ إذاً يعضُّ على يديهِ ندماً لأنَّهُ لم يكن من أولئكَ الَّذين كانوا عباداً صالحين، التقوا على ذلكَ النَّهجِ والطَّريقِ الَّذي أرادَهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى ، فالنبيّ يقول: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيراً جعلَ لَهُ وزيراً صالحاً، إن نسيَ ذكَّرَه، وإنْ ذكَرَ أعانه". فالنَّاسُ الَّذين من حولِ الإنسانِ يجبُ أن يكونوا أحدَ هذَيْن الوصفيَنْ، إمَّا ينبهِّونَهُ على خطئِهِ، وإمَّا يساعدونَهُ على العملِ الصَّالحِ . فهناكَ نمطٌ من النَّاسِ والعياذُ باللهِ في بيئةٍ، إذا أرادَ أحدُهُم أن يعملَ عملاً صالحاً يُسَخّفونَهُ به، وإذا عمِلَ عملاً فاسداً ساعدوهُ عليه، لذلكَ يومَ القيامةِ يندمُ الإنسانُ أنَّهُ لم يتَّخذ مع الرَّسولِ سبيلاً ويقولُ: "يا ويلتي ليتني لم اتَّخذ فلاناً خليلاً".

هذا الصَّديقُ الَّذي كانَ بسببهِ ذلك الموقفُ الحرجُ والصَعبُ، يجبُ علينا أن نبتعدَ عن أمثالهِ، لأنَّنا بحاجةٍ إلى صديقٍ يقرِّبُنا من اللهِ تعالى، فإن حانَ موعدُ الصَّلاةِ يذكِّرنا ويشجِّعنُا على الصلاة في وقتها، أو يقولُ لنا: نحنُ في شهرِ رمضان، فلنقرأُ القرآنَ أو فلنقم بعملِ خيرٍ، أو نصلَ أرحامَنا ونعملُ صالحاً، بعكسِ الصّديقِ الَّذي يزيدُ الحقدَ والضَّغينةَ في قلوبِ النَّاس، حتَّى لا يوفَّقوا لأيِّ عملٍ صالحٍ في هذا الشَّهرِ المباركِ، فكم هو الفرقُ الشاسع بينَ هذَيْن الصّديقَيْن؟ فالإنسانُ يوم القيامةِ يدركُ أنَّ صداقَتَهُ مع الإنسانِ السَّيِّء أوصلتهُ إلى حالةِ النَّدمِ، بل إلى حالةٍ لا ينفعُ معها النَّدم.

وهذهِ الآيةُ الكريمةُ نزلَتْ بالرَّجلِ الَّذي ارتدَّ وعادَ إلى النَّبيِّ بارتدادهِ، فكان أوَّلَ من قُتِلَ في معركةِ بدرٍ ضِدَّ النَّبيِّ، فانظروا إلى عاقبةِ السَّوءِ الَّتي انتهى إليها، لم يحصلْ على أيِّ مصلحةٍ حتَّى على مستوى الدَّنيا.

وأمير المؤمنين يقولُ أيضاً في هذا المجال: "صلاحُ الأخلاقِ بمعاشرِ العقلاء" ، فالإنسانُ الصَّالحُ الَّذي يستطيعُ أن يختارَ العاقلَ في عشرتِهِ وفي حياتهِ، فالعِشرةُ الصَّالحةُ هي الَّتي توصِلُ الإنسانَ إلى ساعةٍ يستطيعُ معها أن يتوبَ إذا أخطأ، فليسَ المطلوبُ من الإنسانِ ألَّا يخطئ، فهو ليسَ معصوماً في هذهِ الحياةِ، ولكنَّ المطلوبَ منهُ أنْ يوفَّقَ للتَّوبةِ، فهذا الشَّهرُ الكريمُ يعطي فرصةً للإنسانِ المؤمنِ يجبُ أن لا تفوتهُ، فإنَّ بابَ التَّوبةِ قد فُتِحَ على مصراعَيْهِ ليدخلَ إليها الإنسانُ المذنبُ، وكلُّ الَّذين يحتاجونَ للتَّوبةِ ولتكفيرِ خطاياهم.

هذهِ اللّيالي المباركة الباقيةُ من هذا الشَّهرِ الكريمِ نحتاجُ أن نغتنمَ فيها الفرصةَ بكلِّ ما أوتينا من قوةٍ حتَّى نعيدَ فيها تلكَ العلاقةَ الصَّحيحةَ بيننا وبين الله اللهِ سبحانهُ وتعالى.

يجبُ علينا أن ندركَ حقيقةً نحنُ مع أيِّ مجموعةٍ في هذهِ الدُّنيا، ففي الحديثِ الشَّريفِ: " إذا أردتَ أن تنظر إلى أيِّ إنسانٍ إذا كانَ على خيرٍ أو على شرٍّ، انظر إلى أصدقائهِ وقرنائِهِ". فهذهِ الصّحبةُ هي الَّتي تتركُ أثرَها عليه، فإن كانوا صلحاءَ، لا بُدَّ وأن ينتهوا بهِ إلى الصَّلاحِ، وإن كانوا أشراراً، يمكنُ أن يفسَدَ الإنسانُ في مكانٍ ما دونَ أن يشعرَ حتَّى لو كانَ إنساناً صالحاً.

فالإنسانُ المؤمنُ هو الَّذي يتَّخذُ من هذهِ الأيامِ واللَّيالي في هذا الشَّهرِ الكريمِ، محطةً يوفقُ من خلالها أن يعودَ إلى ذلكَ الواقعِ الَّذي أرادهُ اللهُ سبحانه وتعالى، حتَّى لا يصلَ إلى ساعةِ ندمٍ فيقولُ: "لقد أضلَّني عن الذِّكرِ بعدَ إذ جاءني وكان الشَّيطانُ للإنسانِ خذولاً". في ساعةٍ لا يجدُ من حولِهِ أحداً ولا ينفعُهُ أحدٌ إلَّا العملُ الصالحُ الَّذي التزمَ بهِ في حياتِهِ الدُّنيا.

في هذا الشَّهرِ الكريمِ الَّذي نبتهلُ فيهِ للهِ سبحانهُ وتعالى متوسيلينَ بصاحبِ ذكرى هذه المناسبةِ التَّي مرت علينا، ذكرى شهادةِ الإمامِ عليٍّ بن أبي طالبٍ، مستشفعين إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى بكرامتهِ، فإننا نسعى ونسألُ اللهَ تعالى أن نكونَ قد اتخذنا من عليّ خليلاً في هذهِ الحياةِ، حتَّى نُحشَرَ معهُ يومَ القيامةِ، وأن نتَّخذَ من السَّائرين على نهجهِ والملتزمينَ بخطَّهِ أخلَّاءً وأصدقاءً بصدق، حتَّى نُحشرَ معهم يوم القيامةِ وندركَ سعادةَ ذلك الموقف، ونُخلِّصَ أنفسنا من صعوبةِ ذلكَ الموقفِ الَّذي لا يمكنُ للإنسانِ فيهِ أن يستعينَ بالإنسانِ الآخرِ، لأنَّ النَّاسَ للنَّاسِ أعداءٌ يومَ القيامةِ إلَّا المتَّقين، إلَّا الإنسانُ المتَّقي تكونُ لديهِ صداقةٌ مع الإنسانِ الآخرِ تنفعُهُ، لأنَّ الشَّيطانَ بما يُمثّلُ بكلّ عناصرهِ وجماعتِهِ "إنَّ الشَّيطانَ كان للإنسانِ خذولا". ففي أوَّلِ مفصلٍ، يتبرّأُ منهُ يذهبُ إلى مكانٍ آخرَ، أمَّا المؤمنُ فيمكنُ أن يحافظَ على الإرتباطِ والصَّداقةِ مع المؤمنِ، لأنَّهما يرتبطان برابطٍ يتقوَّى في مشهديَّةِ يومِ القيامة.

في هذا الشَّهرِ الكريمِ، الَّذي نحتاجُ فيهِ إلى الكثيرِ من إعادةِ ما انقطعَ مع الأحبَّاءِ والإخوةِ والأرحامِ، وإلى إعادةِ اللُّحمةِ بين المؤمنين، حتَّى يتوادَّوا ويتحابَّوا في اللهِ سبحانهُ وتعالى، وهذا يستدعي أن يتناسى الجميعُ كلَّ الضَّغائنِ والأحقادِ، وأن يترفَّعَ عن تلكَ المناكفاتِ الَّتي يعيشُها الإنسانُ في حياتِهِ.

نسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يعصِمَنا وإيَّاكُم من الزَّللِ وأن يوفِّقَنا لما يحبُّ ويرضى، و أستغفِرُ اللهَ لي ولكم وآخرُ دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والسَّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُهُ.