تصدّت أميركا لقيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1990، وتصرفت كقطب وحيد فيه، من دون مراعاة لأحد، حتى الدول الصديقة لها، كفرنسا وألمانيا، وتفرّدت في معالجة العديد من الأزمات في أفغانستان والعراق وسورية، ولم تعطِ وزناً لمجلس الأمن، وكانت أكثر قراراتها في الحروب تأتي من خارج المنظومة الأممية.

عملت روسيا على استعادة مكانتها الدولية التي فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكان للرئيس بوتين، ومنذ توليه الحكم في العام 2009، دور رئيس في هذا المجال، وكان له دور في النهضة الاقتصادية لروسيا وزيادة قدراتها العسكرية، واستطاعت روسيا خلال فترة استعادة دورها الإقليمي، وتصدّت لمشاريع الهيمنة الأميركية على مناطق القوقاز، وتدخلت روسيا عسكرياً في جورجيا وأوكرانيا، وضمّت جزيرة القرم إليها، ودخلت إلى ملف الأزمة السورية بقوة، لأنها أدركت المخاطر التي تنتظرها بعد سقوط سورية بيد أميركا، سواء كان على المستوى الأمني، حيث الكلام الرسمي في روسيا بأن الأمن في سورية هو جزء من الأمن القومي في روسيا، أو على المستوى الاقتصادي، نظراً إلى أهميتها النفطية، حيث تم اكتشاف كمية ضخمة من الغاز تقدَّر بـ36 مليار متر مكعب، موجودة على الشاطئ السوري وشواطئ البحر المتوسط، ولأنها - حسب المشروع الأميركي - ستكون ممراً لنفط الدول العربية و"إسرائيل" إلى أوروبا بدلاً من النفط الروسي الذي يغذيها الآن.

زادت روسيا من وتيرة تدخّلها؛ بالدخول العسكري المباشر في أيلول من العام 2015، وأعلنت أن هدفها من هذه الحرب محاربة الإرهاب التكفيري، وأن الحل في سورية يجب أن يكون سياسياً، وتشارك فيه جميع الأطراف، واستطاعت من خلال الغارات الجوية، وبالتنسيق مع الجيش السوري والمقاومات الشعبية خلال أشهر عدة، أن تُضعف من قوة "داعش"، وأن تفرض عليه الانسحاب من العديد من المناطق التي احتلها، وأن تفرض واقعاً ميدانياً جديداً على الساحة السورية، بحيث أصبحت روسيا ومعها إيران وسورية وحزب الله الأقوى فيها، بينما أميركا ومعها تركيا والسعودية هي الأضعف.

قرأت أميركا جيداً نتائج التدخُّل العسكري الروسي في سورية، فأدركت أنه فرض واقعا ميدانياً جديداً، وأن روسيا أصبحت رقماً هاماً فيها، ويصعب تجاوزها، ما دفع بأميركا للقبول بمشروع الهدنة الذي طرحته روسيا، والتي كانت تسعى من خلاله التمهيد للدخول في المرحلة الانتقالية (حكومة موسَّعة وإجراء انتخابات برلمانية يسبقها تعديل للدستور) التي تم الاتفاق عليها في فيينا، لكن أميركا كانت تهدف إلى شيء آخر، وهو الاستفادة من هذه الهدنة لدعم المجموعات المعارضة بالسلاح والمقاتلين، لمحاربة "داعش" في بعض المناطق، كالرقة ومنبج، للحلول مكانها، بحيث لا يعود بإمكان الجيش السوري مقاتلتهم بذريعة أنهم من المجموعات المعارضة وليسوا من "داعش" أو "النصرة"، ولتثبيت وجودهم وللسيطرة على المناطق التي استعادها الجيش السوري في ريف حلب الجنوبي، ولمنعه من إكمال مشروعه في استعادة حلب، نظراً إلى أهميتها العسكرية والسياسية.

هنا لا نستطيع القول إن هذه المتغيرات في ساحة الميدان جاءت بعد التنسيق بين أميركا وروسيا كما ذهب بعض المحللين، بل نقول: لعل هذه الهدنة كانت خديعة لروسيا، التي كانت تأمل أن تكون مدخلاً إلى الحل السياسي، بينما لا تجد أميركا أن الظروف ناضجة لهذا الحل، خصوصاً مع الرفض السعودي والتركي لبقاء الأسد.

قد تستمر هذه الهدنة، لكن الخروقات ستستمر أيضاً، وبوتيرة عالية، وستبقى حالة الاستنزاف في سورية، لأن أفق التسوية مسدود، سيما أن الإدارة الأميركية تعيش حالة برزخية (الوقت الضائع) خلال الأشهر الأخيرة من نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما في شهر تشرين الأول، والفترة الأولى من انتخاب الرئيس الجديد.