لا ينبىء المشهد اللبناني عن حلول أو محاولة اجتراح مخارج لأزمات متراكمة ومتداخلة على المستوى الدستوري والسياسي واستتباعاً على مستوبات اقتصادية واجتماعية وأَمْنِية. ثمّة ما يوحي بعجزٍ أو استسلام عام لهذه المراوحة الدستورية والسياسية واستسلام للإنتظار. مهما اختلفت القوى السياسية في توصيف الأزمات القائمة وأسبابها، فإنّها مدركة أنّها ليست قادرة على اجتراح حلول، بل بدَت في معظمها خائفة من أيّ تغيير على المعادلة السياسية المعطوبة إذ أنّه رغم أَسر اللبنانيين من خلال هويتهم الطائفية والمذهبية، فإنّ القوى السياسية تبدو خائفة من انفراط هذه المعادلة التي حالت دون إحداث أيّ تغييرٍ في الحياة السياسية أو تجديدٍ للنخب الحاكمة في أبسط الأحوال، والاهم ان هذه القيادات ليست مطمئنة الى شرعيتها حتى داخل احزابها.

لقد شكلت الإنتخابات البلدية مؤشراً لنزعة التغيير لدى اللبناني، وأظهرت استعصاء الاحزاب السياسية على مجاراة هذا النزوع اللبناني العام نحو الخروج من الدوران في حلقة مفرغة باتت مؤذية بل قاتلة. لذا يمكن ملاحظة أنّ القوى السياسية حاولت وبنسبٍ متفاوتةٍ محاصرة هذه الظواهر وكتمها بوسائل شتى. ليس خافياً أنّ إرادة التجديد والتغيير هي إرادة من خارج القيد الطائفي أو المذهبي، بل حتى القوى التي تغرف من منابع العصب المذهبي والطائفي وجدت نفسها أمام أسئلة محازبيها وجمهورها عن التجديد في النخب الحزبية والسياسية. ففي نظرة شاملة يمكن ملاحظة أنّ الاحزاب السياسية في معظمها إن لم يكن كلها، لم تعمل على إجراء أيّ تغيير على مستوى النخب الحزبية، لم يجد أيّ حزب أو قيادة حزبية معنيين بتنظيم مؤتمر حزبي ينطوي على إعادة تفاعل مع القاعدة الحزبية وتحفيز مشاركة القاعدة في المحاسبة وصوغ الرؤى السياسية والوطنية وصولاً إلى اعادة انتخاب القيادة أو على الأقل تجديد الثقة.

لقد تحوّلت القيادات الحزبية اللبنانية أكثر فأكثر إلى قوى ضاغطة لمنع أيّ تغيير، وتدفع بثقلها من أجل طيّ تقاليد حزبية ديمقراطية نسبية كانت قائمة حتى في زمن الحرب الأهلية، ألا يثير قلق الأحزاب اللبنانية على مستقبلها، أن يجريَ قمع أيّ محاولة لإثارة نقاش علني حول توجهها السياسي وحيال بنيتها التنظيمية، ألا يثير قلق هذه الأحزاب أن تتحوّل كوادرها القيادية إلى موظفين، ولكن بلا سنّ تقاعد، في نظرةٍ إلى كلّ الأسماء القيادية في الأحزاب اللبنانية اليوم يمكن ملاحظة أنّ غياب عنصر الشباب، هو المشترك بين معظم هذه الأحزاب، بل يصعب أن تجد قيادات شابة في الأحزاب اللبنانية اليوم، وإن وُجِدت فهي لم تصل إلى موقع القيادة نتيجة عملية انتخابية حزبية داخلية، بل نتيجة تعيين قام به الزعيم.

المفارقة أنّ القوى الحزبية عبر الناطقين باسمها من مسؤولين حزبيين، يزاودون على اللبنانيين وعلى أقرانهم في الأحزاب بأنّهم لن يسمحوا بالتجديد أو التمديد لمجلس النواب، في مواقف تعكس حالة من ازدراء عقول اللبنانيين إلى الحدّ الذي يكاد المواطن اللبناني يتلمس اتهاماً له بأنّه هو من كان وراء عملية التمديد للمجلس النيابي وهو الذي كبح هذه الروح العالية من الديمقراطية لدى الأحزاب ومسؤوليها. يبقى هنا فاصلة صغيرة إنّ مدّعي الحرص على الاستحقاقات الدستورية والديمقراطية وعلى تجديد ثقة المواطنين بهم عبر صندوقة الاقتراع، هم أيضاً مطالبون بأن يكونوا على نفس الحماسة في المطالبة بتجديد نخبهم الحزبية من خلال العمل على إعادة تجديد القيادة الحزبية أو تجديد الثقة، إنّ مقتضى احترام القاعدة الحزبية هو العودة إليها كل أربع سنوات على الأقل والخضوع لمساءَلتها وفتح الباب أمام تداول السلطة الحزبية. وإلاّ فإنّ القيادات الحزبية تنظر إلى المحازبين باعتبارهم لا يستحقون أن يكون لهم رأي أو مشاركة في مسار الحزب الذي ينتمون إليه وفي الخيارات التي يتخذها سواء كانت استراتيجية أو قرارات عادية غير مصيرية.

للمفارقة أيضاً إنّ معظم الأحزاب اللبنانية اليوم، قامت على مواجهة الزعامات التقليدية، ورفعت شعارات كبرى من مواجهة الإقطاع إلى الانقلاب على فكرة الزعيم الأوحد، تساوى في ذلك المسلمون والمسيحيون، على أنّ النتيجة أظهرت أنّ ما انتفضت عليه هذه الأحزاب وقعت فيه وبالغت في تأليه الزعيم ورذل القاعدة الحزبية، وصارت الأحزاب أدوات في خدمة الإقطاعي والزعيم الأوحد لكن هذه المرة مع إضافة لقب الأمين العام أو رئيس الحزب.

الأحزاب اللبنانية تغالب أمراضها بالمزيد من نشرها في بنيتها الحزبية وفي المزيد من تهميش الحوار ومنع السجال الداخلي، وهذا الأسلوب وإن بدا ضرورياً للقيادة التي تميل بطبعها إلى سماع التصفيق لها من قبل المحازبين، فإنّه قاتل للحيوية الحزبية التي تتراجع لحساب نظام مصالح ضيّق، قابل لأن ينهار في أيّ لحظة تحول سياسي محلي او اقليمي. احزابنا اللبنانية تحتفي بموتها.