لم يكن توقيت محاولة الانقلاب العسكري في تركيا مجرد صدفة تزامنت مع محطات وتحولات إقليمية ودولية. بدت العملية وكأنها مرتّبة لأن تبلغ فقط ما وصلت اليه، وكفى. لكن لماذا؟ الكل تنصل من المحاولة ولم يركب الموجة. كان بمقدور المعارضين والمناوئين للرئيس التركي رجب طيّب أردوغان او قيادات عسكرية "أتاتوركية" أن يجدوا الفرصة مناسبة للإجهاز على الحُكم التركي. الا أنّ التنصّل الجماعي مما جرى فرض أسئلة كثيرة، أهمها:

من وقف حقيقة خلف الخطة؟ هل هم ضباط أتراك رتّبوا العملية لأسباب داخليّة بحتة، وحاولوا استغلال التحولات الدوليّة؟

أنقره تتهم ​فتح الله غولن​ الموجود في الولايات المتحدة بإعطاء اشارة العملية برعاية أميركيّة. هو نفى اتّهام الحكومة التركيّة له بتدبير الانقلاب. فلنفترض انه لم يكن يعرف بما جرى، ولا علاقة له أو لأنصاره بما حصل. لماذا تصرّ أنقره إذاً على اتّهامه؟ هل هي تشير عملياً إلى مسؤولية واشنطن في الوقوف خلف الانقلاب؟ ربما يقصد الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ ذلك فعلاً. هناك أحاديث تركية رُصدت في اطلالات المحلّلين السياسيين تشير الى دور أميركي او علم واشنطن مسبقاً بالعمليّة.

هم يرون أن العلاقات بين اردوغان وواشنطن وصلت الى أسوأ درجاتها، وقد ظهر ذلك في قاعدة انجرليك التركية التي منعت طائرات أميركية من استخدامها للإقلاع والهبوط.

لم يرتح اردوغان للأميركيين ولا هم ينظرون اليه بعين الرضى. هو اندفع بإتجاه موسكو يعتذر لتصحيح العلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي لحظة الاجتماع بين الأميركيين والروس في موسكو لتنسيق العلاقات الدبلوماسية والعسكرية وبحث التعاون بينهم حول سوريا تحديداً، حصلت محاولة الانقلاب في تركيا.

فلنفترض ان اتهام اردوغان لخصمه غولن صحيح. ولنعتبر مع الاتراك أيضاً ان الاشارة أميركية. ماذا يعني ذلك؟

هناك من يقول ان واشنطن لم توافق ولم تمانع على أن يجري الانقلاب. علاقاتها مع الجيش التركي قوية جداً، تلك العلاقة افضل بكثير مما هي العلاقة مع اردوغان. لكن المفاجأة أن المعارضين المنسجمين مع السياسات الأميركية تنصّلوا من العملية. فهل يصح الافتراض هنا أن الأميركيين تفرّجوا: إن نجح الانقلاب باركوه، وان فشل كما حصل أضعفوا الحكم الاردوغاني؟

لِمَ لا؟ بعكس ما قيل عن تجدّد قوة الحكم التركي من خلال إجهاض الانقلاب، فإن تركيّا اهتز أمنها واستقرارها السياسي والاجتماعي، وباتت مشغولة اكثر بتطوراتها الداخلية. هذا ما اعترف به ضمناً رئيس الحكومة ووزير الدفاع في كل أحاديثهما.

فماذا حصل في تلك الليلة؟

هناك من يشير الى امكانية ان يكون اردوغان رضخ لما تطلبه منه واشنطن أثناء العملية بعدما لمس تمدّد الانقلابيين سريعاً، ما منع من توسّع حدود الانقلاب. فالانقلابيون اجتاحوا مفاصل اسطنبول، وأجواء انقره، ووسائل الاعلام الرسمية، وشتّتوا المخابرات الامنيّة، واظهروا ضعفها، وأذاعوا بيان استلام السلطة، وفرضوا واقعاً كان يمكن ان يغيّر المعادلة فعلا بعد ساعات، لكن فجأة تغيّر مسار الامور. فهل منع الأميركيون تمدد الانقلاب بعد رضوخ اردوغان في تلك الليلة؟

وجه ثانٍ لا يجوز التقليل من أهميته: مشهد محاولة الانقلاب يعني بشكل مباشر عدم الرضى العسكري عن السياسة الاستراتيجية للحكم التركي، أي السياسات التي يمارسها تجاه سوريا والعراق ومصر والإسلاميين. واذا كان اردوغان وحكومته خفّفا من ارتباط الجيش بما جرى وحصرا الأمر بقوة صغيرة، فإن مزاج المؤسسة العسكرية سيكون سيئاً إزاء تصرف القوى الأمنيّة مع ضباط وعناصر الجيش بشكل مهين يمسّ البدلة المرقّطة ورمزيتها. من هنا جاء حديث الحكومة التركية عن ضرورة الانتباه لمحاولات انقلابية أخرى. كان يمكن لأردوغان أن يمنع ما حصل بحصر العقاب بالمحاكمة العادلة وفق ما ينص عليه القانون. هذا ما طلبته الدول الغربية وروسيا منه.

بجميع الأحوال ستجري تحولات تركية عجّلت محاولة الانقلاب بحدوثها. اذا كان الأميركيون يقفون خلف العملية واكتفوا بما حصل، فهناك اما تعهّدات قدّمها أردوغان، او رسالة وصلته وفهم أبعادها وآثارها وما يجب ان يفعل بعدها.

وإذا كانت المحاولة هي خطوة "غولانية" لإنهاء أردوغان، فإن الرئيس التركي سيبقى مشغولا بتداعياتها وإشاراتها الاميركيّة بإعتبار أنّ خصمه ترعاه الولايات المتحدة وتطّلع على كل نواياه وخطواته.

اما اذا كان البُعد للعملية عسكرياً في حسابات الجيش، فإن اردوغان سيكون مضطراً لأخذ تلك الخطوة في عين الاعتبار. فقد تتكرر وتتوسع العملية. الجيش قد يوقظ "الاتاتوركيين" من نومهم ويُطلق اعتراضهم لفرض رؤيتهم. والاهم ان اردوغان لم يعد بإستطاعته ان يتصرف عسكرياً في الاقليم من دون رأي وموافقة المؤسسة العسكرية الكامل، لا حول سوريا ولا أي عنوان إقليمي آخر.

الاهتزاز التركي لن يقف عند هذه الحدود. سيكون اردوغان اكثر اندفاعاً نحو تغيير سياساته الدولية. بداية مع تحسين العلاقة بشكل اوسع مع موسكو لكسب ودّ الروس. والرضوخ لمطالب الأميركيين بمحاربة "داعش" فعلاً. ومجاراة اي اتفاق روسي-أميركي حول سوريا قولا وعملاً.

انها مرحلة جديدة في تركيا ثبّتتها محاولة الإنقلاب. سنرصد تداعياتها على الحدود السورية-التركية، وفي التنسيق العسكري مع روسيا، و"التكويعة" المتشعّبة حول مقاربة الملفّات الإقليمية. هذا اذا استثنينا العوامل الداخلية التركيّة من مشروع تعديل الدستور الى السياسات الحكومية الخانقة للعلمانيين "الأتاتوركيين".

في حال لم يغيّر أردوغان ممارساته السياسية لا يضمن ألاّ يتوسع هذه المرة أي مشروع انقلاب مرجّح. لم يعد اردوغان أقوى كما يُقال. سيضطر لإشراك المعارضين في الحكومة وسياساتها. وهنا اول الغيث في "التكويعة" المرتقبة.