في مؤتمره التقييمي لنتائج جولة الإنتخابات التمهيديّة للإنتخابات النيابيّة المُقبلة، قال رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​: "تبيّن أنّ حجم المُعترضين صغير جدًا، ومن صوّت بهذا الإتجاه الإنقلابي لا يتجاوز 1 %، أيّ أقل من 200 صوت...". فهل صحيح أنّ ما يُحكى عن "مُعارضة" مُتصاعدة داخل "التيّار" هي مجرّد "زوبعة في فنجان" يقوم بعض الإعلام بتضخيمها، أم أنّنا نشهد "نواة إنشقاق" قد يُصبح أمرًا واقعًا في أيّ وقت في المُستقبل؟

من الطبيعي أنّ يتحدّث رئيس أيّ حزب بشكل إيجابي عن واقع "حزبه"، ومن الطبيعي أن يتحدّث رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" بإيجابيّة عن واقع "التيّار" اليوم، خُصوصًا أنّه أوكل مهمّة وضع أسس تنظيمه منذ سنوات، لكنّ هذا الأمر لا يعني بالضرورة أنّ الأمور على أكمل وجه، والمسألة ليست عبارة عن رأي أو عن وجهة نظر، حيث أنّ الكلمة الفصل هي للوقائع المتعدّدة. وفي هذا السياق، يُمكن ذكر ما يلي:

أوّلاً: إنّ تقليص الوزير باسيل عدد "المعارضين" داخل "التيّار" إلى 1 % غير صحيح، لأنّ "المُعارضة الداخليّة" لا تقتصر على مجموعة من المُحازبين قامت عمدًا بالتصويت للسيد ​زياد عبس​ المفصول من الحزب كخطوة رمزيّة إعتراضيّة، بل تشمل أيضًا التصويت الساحق الذي حصدته شخصيّات "عَونيّة" معروفة بمُعارضتها لأسلوب قيادة باسيل، ولو من داخل الأطر الحزبيّة والتنظيميّة. فليس صدُفًة أنّ النائب آلان عون الذي كان مُرشّحًا لمنافسة الوزير باسيل على موقع رئاسة الحزب صيف العام الماضي قبل أن ينسحب نتيجة الضغوط و"مَونة الجنرال"، حصد في الإنتخابات التمهيديّة الداخليّة في بعبدا 451 صوتًا بفارق شاسع عن منافسيه. وليس صدفة أنّ النائب ​سيمون أبي رميا​ المحسوب على الخط المُعارض لقيادة الرئيس الحالي للتيّار أيضًا، حصد في إنتخابات جبيل 696 صوتًا أي أكثر من ضعف الرقم الذي حقّقه أقرب منافسيه. والأمر نفسه تكرّر مع النائب ​زياد أسود​ في إنتخابات جزّين، ومع النائب إبراهيم كنعان في إنتخابات المتن، مع تسجيل نتائج ممتازة لناشطين مُشاكسين مثل جيمي جبّور على سبيل المثال لا الحصر.

وإذا كان صحيحًا أنّ هؤلاء النوّاب إستفادوا من حضورهم السياسي والخدماتي والإعلامي على مدى سنوات طويلة، في مُقابل محدوديّة قُدرات منافسيهم، فإنّ الأصحّ أنّ الكثير من الأسماء المنافسة لهم كانت مدعومة مُباشرة من قيادة "التيّار"، وهي فشلت في الحصول على أصوات تخوّلها فرض نفسها كأرقام صعبة ضمن المُعادلة الحزبيّة الداخليّة.

ثانيًا: إنّ أحدًا من المُنتسبين إلى "التيّار" لم يكن يرغب بأن يُصبح خارجه، وبالتالي إنّ الناشطين ​نعيم عون​ وزياد عبس وأنطوان نصر الله و​بول أبي حيدر​ أخرجوا من "التيّار" بغير إرادتهم(1)، ما يؤكّد أنّ الناشطين المُعترضين لا ينحصرون بهؤلاء المسؤولين فحسب، حيث أنّ الكثير منهم لا يزال يحفظ خط الرجعة مع قيادة "التيّار" الحالي، ويُفضّل خفض سقف الإعتراض في المرحلة الراهنة، والأهم أنّ أغلبيّة الناشطين "المُعترضين" ما زالوا يتغاضون عن كل ما يرونه من "تجاوزات" برأيهم، وذلك كرمى لعيون الرئيس الفخري ومؤسّس "التيّار" العماد ميشال عون.

ثالثًا: إنّ الحالات الإعتراضيّة على ما آلت إليه الأوضاع داخل "التيّار" ظهرت إلى العلن بهذا الشكل الفاقع في المرحلة الأخيرة، لكنّها كانت قد بدأت منذ سنوات طويلة، وحالات الإستقالة الطوعيّة والطرد من "التيّار" تكثّفت منذ تسلّم الوزير باسيل قيادة "التيّار" رسميًا في 20 أيلول 2015، في ولاية لمدّة أربع سنوات. وإذا كان البعض يتّهم مثلاً اللواء عصام أبو جمرة بالخروج من "التيّار" لاعتبارات شخصيّة(2)، فإنّ أحدًا لا يُمكنه أن يتهم الناشطين المفصولين حديثًا من "التيار" بذلك، كون إعتراضاتهم هي على مبادئ مُحدّدة ولأسباب تنظيميّة وإداريّة داخل الحزب، ولما يعتبرونه "مخالفات" و"تجاوزات"، إلخ.

رابعًا: إنّ قائد فوج المغاوير السابق، العميد شامل روكز، فضّل عدم الدخول تنظيميًا إلى "التيّار" لاعتبارات عدّة يختلط فيها "العائلي" و"السياسي" و"التكتي"، علمًا أنّ ثقله المعنوي داخل "التيّار" كبير جدًا، وهو ما تعكسه مُطلق أيّ مُتابعة لصفحات مواقع التواصل الإجتماعي المؤيّدة للتيار. يُذكر أنّ الكثير من محبّي العميد روكز كانوا إعتبروا أنّ تعيين موعد إنتخابات رئاسة "التيّار" في 20 أيلول الماضي قبل أسابيع من تقاعد روكز، ووضع شروط مُحدّدة للترشّح لقيادة "الحزب" كان مُتعمّدًا لإبعاده، الأمر الذي أثار حالاً إعتراضية لم تضمحل حتى تاريخه. وليس سرًّا أنّ أغلبيّة واسعة من مُحازبي ومُناصري "التيّار" تُفضّل قيادة روكز على قيادة باسيل أو حتى أيّ شخصيّة أخرى من داخل "الحزب"، وهو أمر واضح وسهل التلمّس من خلال الدردشات والمدوّنات على مواقع التواصل الرقمي. واليوم، يتحرّك العميد روكز سياسيًا بشكل مُستقلّ تمامًا عن "التيّار"، على الرغم من أنّ ظلّه موجود في أكثر من حدث إنتخابي وخلف أكثر من مرشّح، بشكل يفتح الباب أمام إحتمال إنخراطه في "التيّار" بشكل صاعق ومفاجئ في أيّ وقت بالمُستقبل.

في الخلاصة، لا بُد من التذكير أنّه في العام 2005 كان عدد المُنتسبين للتيار الوطني الحُرّ نحو أربعين ألفًا، وهذا الرقم تقلّص اليوم إلى النصف، ولو ضمن هيكليّة حزبيّة وإداريّة أكثر تنظيمًا ودقّة من السابق. وإذا كان صحيحًا أنّ الوزير باسيل صار يُمسك بمفاصل "الحزب" الرسميّة والتنظيميّة أكثر فأكثر اليوم، فإنّ الأصحّ أنّ الهالة التي يُشكّلها العماد ميشال عون تُرجئ المشكلة الكبرى التي ستنفجر داخل "التيّار" إلى ما بعد مرحلة "الجنرال". وعندها لن يقف حائل دون تحوّل ما تصفه قيادة الحزب اليوم بأنّه "زوبعة في فنجان" إلى حال إنشقاق عامودي كامل للتيّار.

(1)بتاريخ 29 تمّوز الماضي صدر عن المجلس التحكيمي قرارات فصل بحقّ هؤلاء الناشطين "سندًا لأحكام المادة 2 من النظام الداخلي، لثبوت إرتكابهم بشكل علني وفاضح مخالفات متكرّرة ومتمادية تتناقض مع أبسط قواعد العمل الحزبي"... كما جاء في بيان صادر عن لجنة الإعلام المركزيّة في "التيّار".

(2)أدّى قرار ترشيح نائب رئيس الحكومة السابق اللواء عصام أبو حمرة عن المقعد الأرثوذكسي في دائرة بيروت الأولى بدلاً من جزين في العام 2009، إلى فشله في الفوز بالمقعد النيابي، ثم أسفر عدم تعيينه وزيرًا في الحكومة التي تلت الإنتخابات النيابية المذكورة إلى خلافه مع "الجنرال" وخروجه من "التيّار"، علمًا أنّ اللواء أبو جمره يعزو غضبه إلى إختيار شخصيّات قوميّة وشيوعيّة الهوى لمناصب وزاريّة من حصّة "التيار" بدلاً من مناضلي التيّار أنفسهم.