«إنني لا اقبل بأن يكون هناك معارضة داخل التيّار لأنّ المعارضة تكون على الفكرة والمشروع، وفي التيار لن يكون هناك تيارات وأجنحة». (كلمة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في ذكرى 7 آب).

هذا الكلام لرئيس «التيار الوطني الحر» قبل أيام، ينطبق على غالبية الأحزاب اللبنانية، حيث لا مكان لرأي يُناقض رأي رئيس الحزب أو التوجّه العام للقيادة. وقد شهدت كل الأحزاب إقصاء لأشخاص حاولوا التمَايز عن خط الحزب أو عبّروا عن معارضتهم لتوجّه رئيس الحزب. وقد شهد التيار في الفترة الأخيرة، كما حزب الكتائب، وغيرهما من الأحزاب من قبل، قرارات بفصل من تجرّأ على التعبير عن رأي مخالف.

والسؤال: هل هذا الأمر في مصلحة الأحزاب؟ وهل الفكر الواحد والقرار الواحد يخدمان حقاً مصلحة الحزب والمصلحة الوطنية؟ وأيّ مصلحة يجب أن تتقدّم على الأخرى: مصلحة الحزب أم المصلحة الوطنية؟

أسئلة بنيوية على صعيد الحزب كما على صعيد الوطن. فالقرار الحزبي ينعكس على الوطن، والأحزاب هي محرّك الحياة السياسية؛ نجاحها يُسهم في تقدّم الوطن وفشلها يعطّل المسيرة الوطنية.

في العالم العربي، اعتَدنا على حكم الحزب الواحد والرأي الواحد. وهذا الأمر كان أحد الأسباب الرئيسة في عدم تقدّم المجتمعات العربية طوال عقود، ومن ثم أدّى الى تدمير الأنظمة العربية من الداخل ولا سيما حين أصبح همّ الحفاظ على الحزب يتقدّم همّ الحفاظ على الوطن.

إذا نظرنا الى الأحزاب في الدول الديموقراطية رأينا أنّ الأمر مختلفاً.

ها هي الانتخابات الأميركية تشهد معارضة علنية من جانب شخصيات كثيرة لمرشّح حزبهم، وقد أعلن كثير من مسؤولي الحزب الجمهوري أنهم لن يصوّتوا لصالح مرشح الحزب، من دون أن يتم فصلهم.

وها هي الأحزاب الفرنسية حيث هناك معارضة قوية داخل الأحزاب لتوجهات قيادات حزبهم، كما الحزب الاشتراكي الحاكم في فرنسا الذي يشهد تيارات كثيرة في داخله ومنها من يُعارض بصوت عالٍ سياسة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، من دون أن يتم فصلهم. لا بل فإنّ مارتين اوبري، الاشتراكية، إحدى أشدّ معارضي سياسة رئيس الحكومة الاشتراكي مانوال فالس، باتت إحدى الشخصيات التي يُعوّل عليها الحزب لاستعادة شعبيته.

وفي تقليد الأحزاب الفرنسية أن يكون هناك تيارات متعددة في داخلها، يسعى كل واحد لإقناع الآخرين بحججه وتوجّهاته. ويعتبر الأمر بمثابة غِنى فكرياً وميدانياً، بحيث يتمّ اقتراح أفكار جديدة للمناقشة، كما يتمّ من خلال التيارات استقطاب المعارضين لكي لا يتركوا الحزب أو لكي لا يتوجّهوا الى أحزاب أخرى. فالنقاش داخل الأحزاب يخدم النقاش العام ويقدّم آراء مختلفة تُسهم في بلورة الخيارات السياسية الكبرى وفي تصويب المسيرة الحزبية وتالياً الوطنية.

فمن يستطيع، مثلاً، التأكيد أنّ خيارات «التيار الوطني الحر» حالياً هي صائبة مئة في المئة لكي يتمّ رفض أيّ معارضة لها؟ أوَلم يحدث في الماضي أن كانت خيارات هذا الحزب، كما غيره من الأحزاب، خاطئة؟ وهل يفترض بالحزبيين أن يوافقوا على خيارات حزبهم صاغرين من دون أيّ نقاش؟

أحد مسؤولي «التيار الوطني الحر» وصَف طَرد بعض الحزبيين بأنّه عملية «تَشحيل للأغصان المضرّة وغير النافعة لإحيائها من جديد»، والضّرر المقصود هنا هو عدم الرضوخ لتوجّهات القيادة. لكنّ التشحيل سيصيب بعض الأغصان المُنتِجة، وتشحيلها سيُخفّف إنتاجية الشجرة ويضعف مردودها.

إنّ غياب التعددية الفكرية داخل الاحزاب هو تغييب للديموقراطية فيها وإفقار للنقاش وللتداول، وهي مبادئ يفترض بالأحزاب أن تقوم عليها وأن تدافع عنها. وهو أيضاً إفقار للأحزاب التي تخسر نخبة كادراتها، وغالباً تتخلّى عن النخبة التي تملك أفكاراً متميّزة والتي تتجرّأ على معاكسة القيمين على الحزب. وهناك الكثير من الحراك السياسي الذي تقوده هذه النخب التي تمّ إقصاؤها من مختلف الاحزاب اللبنانية (القدامى)، لكن من غير أن تتمكن من تحقيق خرق سياسي، فتنكفئ الى مناوشات إعلامية تضرّ بالحزب وبصورته. ويفترض بالقيادات الحزبية أن تحذر من المصفقين ومنفذي الأوامر من دون اعتراض، فليس هؤلاء من يطلقون الأفكار الجديدة والمبادرات الفاعلة.

إنّ الأحزاب اللبنانية مدعوة الى فتح النقاشات في داخلها حول خياراتها وتوجّهاتها، والى قبول المعارضة في صفوفها، لأنّ في ذلك تطويراً للحزب واحتراماً لمبادئ التعددية والديموقراطية.