يطلّ علينا كل فترة بعض السياسيين والحزبيين وبعض من يقلّدونهم بصراخ مُلفت مترافق مع إصبع مرفوع وفوقية واضحة في محاولة لإثبات وجهة نظرهم. وسبب هذا الصراخ برأيي وببساطة هو عدم قدرتهم على إقناع الآخرين بوجهة نظرهم بأسلوب هادئ، فيلجأون الى هذا الأسلوب المَمجوج اعتقاداً منهم بأنّ الصراخ يعطيهم الهيبة ويُرهب البعض ويقنع البعض الآخر بوجهة نظرهم.

ولعلّ أسوأ ما في هذا الصراخ هو افتقاد المضمون للمنطق وقدرة الإقناع، وجمع الصيف والشتاء تحت سقف واحد، بل أكثر من ذلك فإنه عند الغضب أو التظاهر به قد يكون كلام الذي يصرخ في بعض الأحيان صحيحاً، لكنه يقدمه بأسلوب مُنفر وخاطئ.

إنّ هذا الأسلوب لا يغيّر شيئاً في الحقيقة، وتحريف الوقائع قد ينطلي على بعض الناس لبعض الوقت، لكنه حتماً لن ينطلي على كل الناس كل الوقت، قد يؤجّل ظهور الحقيقة لكنه لا يمكنه أن يلغيها.

قال الإمام علي، رضي الله عنه: «ما حاجَجت عالماً إلّا وغلبته، وما حاجَجت جاهلاً إلّا وغلبني». ونرى اليوم كثيرين ممَّن يتصدّرون الشاشات والمنابر يُحاججون جهلاً عن غير علم، أو جهلاً وينطبق عليهم القول: رجل لا يعرف وهو لا يعرف أنه لا يعرف، وفي الحالتين نرى أنهم يُخرّبون العقول، لأنّ معظم العاقلين يتجنّبون سجالهم.

لا يستقيم هذا الأسلوب مع الحديث عن نظام ديموقراطي يُحترم فيه الرأي والرأي الآخر، فقد عوّدنا أصحاب هذا الأسلوب على العمل على فرض رأيهم بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وحين لم ينجحوا لم يتورّعوا يوماً عن تجاوز الحدود، وطبعاً السابع من أيار وثقافته مثال ونموذج صارخ على ذلك.

قد يلفت البعض الى أنّ تسويات قد حدثت ويُفترض أننا تجاوزنا تلك المرحلة، وهذا ما يقوله المنطق حين تُحترم التسويات، ونحن احترمنا التسويات تماماً، لكنّ السؤال هنا وببساطة: هل احترم اصحاب هذا الأسلوب ما اتفقنا عليه في الحوار الوطني عام 2006 في ما يتعلق بالسلاح خارج المخيمات وترسيم الحدود وتحديدها مع سوريا؟

هل احترم اصحاب هذا الأسلوب ما اتفقنا عليه في الدوحة وقبله في بيروت من حظر اللجوء الى استعمال السلاح او العنف او الاحتكام اليه، وتطبيق القانون واحترام سيادة الدولة ووَقف استخدام لغة التخوين؟

هل احترم اصحاب هذا الاسلوب ما اتفقنا عليه في الدوحة من عدم الاستقالة من الحكومة او إعاقة عملها؟ وهل احترم تعهداته قبل انتخابات عام 2009 النيابية بأنّ من يفوز في الانتخابات يُشكل الحكومة وتذهب الأقلية للمعارضة؟ ألم يُغيّر هذا البعض رأيه بقوله: فلتشكلوا الحكومة على الورق إن بقي هناك ورق.

الأمثلة كثيرة ولا تُحصى، إلّا أنّ أسلوبهم هذا لا يعكس احتراماً لشراكة مفترضة في الوطن، فهم من ناحية يريدون مغانم كاملة وأكثر لهذه الشراكة، ومن ناحية ثانية يرفضون احترام مقتضيات هذه الشراكة، بل أكثر من ذلك هم يفتعلون وضعاً ثم يتذرّعون به بحجج واهية لا تمتّ للمنطق بصِلة.

إنّ أسوأ ما يعكسه هذا الأسلوب هو الترداد الببغائي لبعض من يؤيّدونه ممّا يلغي فرَص النقاش الموضوعي ويُبعده عن الفرص الحقيقية للوصول الى نتائج ايجابية، ويزيد الأمور تعقيداً، ممّا ينطبق عليه قول الشاعر:

لقد أسمعتَ إذ ناديتَ حيّاً ولكنْ لا حياةَ لمَن تنادي

لقد مرّ لبنان بأكثر من تجربة في الماضي كان يشعر في كل منها فريق بامتلاك فائض قوة يؤهله لفرض وجهة نظره على الآخرين، وفي كل مرة كان أصحاب هذا الشعور يصلون الى نتيجة حتمية مفادها استحالة نجاح هذا الفرض وإن حقّقوا لبعض الوقت نجاحاً آنياً محدوداً.

إنّ هذا الوطن لبنان قدره أن يتحمّلنا جميعاً، وقدرنا أن نعيش به بشراكة واحترام للرأي الآخر، ومفيد أن نخوض دائماً حواراً بنّاء يعتمد المنطق والموضوعية، فليس بالصراخ تُبنى الأوطان. وللحديث صلة.