تستمر الازمة الوطنية على المستوى المحلي والازمة الكبرى على المستوى الإقليمي مع تصدعاتها وشظاياها وتردداتها. فالشغور الرئاسي المستمر الذي يشكّل احد اوجهها الأساسية، يفتح الباب على تفكير معمّق و"عصف فكري" لناحية الخروج غير الجزئي من الازمة، بل المستدام. فكيف يحصل ذلك؟.

حتى اللحظة، تلتقي كل المؤشرات عند تمرير الوقت في ظل غياب الأرضية الصالحة للبناء عليها على الصعيد الرئاسي. تمر الأيام بما يشبه الدوران في حلقة مفرغة، مع تسليم العديد من المعنيين بأمر واقع الانتظار الخارجي، من حلب الى ما بعد بعد حلب، فيبقى الملف اللبناني على رف الانتظار، مع ما يعنيه ذلك من استمرار للأزمة.

يقول كثيرون إنه طالما ان الاشتباك السعودي-الإيراني لا يزال قائماً، فلا حلول في لبنان، وعندما تعود المياه الى مجاريها على خط الرياض-طهران، يمكن عندها البحث الجدّي بالواقع اللبناني.

المتطلبات الدستورية

الاّ أن ما كان يصح قبل اشهر، لم يعد كذلك اليوم. فاستمرار الأزمة لا يخلو من التصدعات، في ضوء الاستحقاقات والمتطلبات الدستورية والإدارية والمالية والاجتماعية والأمنية. ما يحتّم التفكير الجدّي بحل "يصنع في لبنان"، ولا يبقي الأبواب مشرعة على الاحتمالات كافة.

هذه الوقائع "المخاطر"، اطلقت عملية نقاش وتفكير في الكواليس. صحيح أن اركان الحوار سيعودون في جلسة الخامس من أيلول مع ردودهم على ما طرح في ثلاثة آب، الاّ أن بقاء الأمور على حالها والمواقف عند مربعاتها الأولى، سيعني أن النتيجة هي نفسها. من هنا، ضرورة بذل جهود إضافية لكسر هذه الحلقة، لا على قاعدة لمرة واحدة فقط، على غرار ما عمل به منذ الطائف اكثر من مرة، بل على قاعدة "هل مرة آخر مرة" من خلال توصيف الداء ووصف الدواء.

ازمة نظام

قبل أيام وصل الى الرابية موفد من بكركي. بعيداً من الاعلام والاعلان عن الزيارة، جرى البحث بين الزائر وضيفه في أفكار عن كيفية الخروج من المراوحة الراهنة، مع ما تحمله من أزمة لا تقتصر على الشغور الرئاسي، بل تحوّلت الى ازمة نظام ومؤسسات وحكم. قبله كانت أولى هذه الأفكار طرحت بين زائر بطريركي ورئيس تكتل التغيير والإصلاح أيضاً، وبقيت المداولات هذه المرة كذلك من أمانات المجالس.

امس الأول، حلّ امين سر تكتل التغيير والإصلاح النائب إبراهيم كنعان في بكركي، معايداً ومصرّحاً. أتت الزيارة في سياق التنسيق المستمر بين التغيير والإصلاح ورأس الكنيسة المارونية، في ضوء يقين الطرفين بأن الحلول الجزئية لم تعد تكفي، وأن العمل على معالجة أسباب الخلل الميثاقي على صعيد رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب.

انقطاع التواصل

صحيح أن بكركي لا تفوّت فرصة الاّ وتعيد فيها تأكيد ضرورة انهاء الشغور الرئاسي بانتخاب رئيس، الاّ أنها لا تعني بذلك أي رئيس. فالكنيسة المارونية متمسكة بما نادت به في مذكرتها الوطنية لناحية "الاتيان برئيس صاحب تمثيل يعبّر عن وجدان طائفته". وصحيح أيضاً ان البطريرك الماروني يدعو الله الى "الهام المسؤولين لانتخاب رئيس"، لكنه يعلم أن القضية تحتاج الى أكثر من الهام.

من هنا، يبدو أن هناك من يتعاطى مع القضية على طريقة "الابرة والخيط". فثوب الحلول يجب ان يصنع محلياً، بأياد محلية، ومكونات محلية، لا سيما أن الاثواب الجاهزة للارتداء لا تناسب الجسم اللبناني. فالرهان على انقطاع التواصل بين بكركي والرابية مستحيل، كما الغمز من قناة تسطيح العلاقة وجعلها اجتماعية وللمجاملة، جهل كامل للوقائع والاهداف.

الطرح المختلط

في الكواليس حديث عن بناء مشترك في زرع قانون الانتخاب بين الرابية ومعراب. يبدو الطرح المختلط الأكثر تحسيناً للتمثيل والأكثر قابلية للتسويق هذه الأيام. يريد ركنا الاتفاق المسيحي حمل ورقتهم المشتركة للحصول على توقيع "الشركاء" عليها، من المستقبل الى الاشتراكي وامل وحزب الله. لكن هذه الانطلاقة تسبقها نقاشات مع المكونات المسيحية الأخرى، وفي مقدمها حزب الكتائب، لتأمين أكبر مظلّة ممكنة، تطور ما هو مطروح ويلقى قبولا مبدئيا من الجميع، لتحسينه بإدخال تعديلات على الدوائر وتوزيع المقاعد.

وتشير أوساط "بكركي" لـ"البلد" الى أن "الخلل التمثيلي يجب الّا يستمر، لا سيما في ضوء ما نجم عن ذلك من اعطال على الصعيد المؤسساتي، من مجلس النواب الى الحكومة، بدءاً برئاسة الجمهورية".

في اللقاءات الأخيرة في بكركي، بات سيد الصرح على بينة أكثر مما يجري، بعد وضعه في صورة الأفكار المطروحة والتقدم الحاصل، وهو المطالب، اكثر من أي وقت مضى، بالمباركة والدعم والتشجيع، انطلاقاً من أن تصحيح التمثيل يعيد تصحيح الواقع المؤسساتي في شكل جذري وكامل، بمعنى انه اذا كان التمثيل النيابي بخير، باعطاء كل ذي تمثيل حجمه، بات الجسم الوطني أكثر صحة وتماسكاً.

دوحة لبنانية

بسلّة او من دونها، "بدوحة لبنانية" او باتفاق بين المعنيين، كل الدروب تقود الى خاتمة واحدة: إن حماية الاستقرار والمؤسسات من الخضات التي شهدتها منذ الطائف وحتى اليوم، يحتّم سلوك طريق احترام الدستور والميثاق، وهذا الطريق يمر بحتمية تصحيح الخلل على مستوى الرئاسة وقانون الانتخاب، ما يعيد ترميم الهيكل المؤسساتي على أسس ثابتة، لا تتضعضع او تترهل عند كل أزمة. الضغط يسير في هذا الاتجاه، فيما المطلوب توافر الإرادة، وعدم إضاعة الوقت.