يكشف كتاب صدر حديثاً في الولايات المتحدة دور واشنطن في السياسة اللبنانيّة في بداية الحرب الأهليّة. الكتاب الذي يحمل عنوان «ميادين التدخّل: السياسة الخارجيّة الأميركيّة وانهيار لبنان، ــ »، يعتمد على الأرشيف الأميركي من سجلات وزارة الخارجية ودوائر استخبارية وغيرها، ويُظهر في صفحاته ضلوع واشنطن في إشعال الحرب الأهليّة واذكائها وكيفيه تعاملها مع «حلفائها» في بيروت. في ما يأتي، الحلقة الثانية من السلسلة التي تنشرها «الأخبار»

ما يكتشفه المرء من هذه الوثائق الأميركيّة الرسميّة حميميّة العلاقة بين حزب الكتائب اللبنانيّة والحكومة الأميركيّة (أي إن مقولة أن حزب الكتائب اضطرّ مرغماً إلى الاستعانة بـ»الشيطان»، أي إسرائيل، في سنوات الحرب الأهليّة لأنه كان معزولاً، ما هي إلا واحدة من أكاذيب الحزب الذي كان يتنعّم مبكراً بدعم خليجي وأردني وأميركي، حتى لا نتكلّم عن دعم غربي آخر لا وثائق عنه إلى الآن).

كذلك إن أحزاب الكتائب والأحرار والكتلة الوطنيّة، أو بالأحرى إن شخص كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إدّة (الذي افترق عن حلفائه في مطلع الحرب والذي لا يبرز في الوثائق كما يبرز شمعون والجميّل، لكن الأخيرين ينطقان في اللقاءات مع الأميركيّين باسم «الحلف الثلاثي» آنذاك) كانوا مشاركين فعليّاً في الحكم في عهد شارل الحلو وسليمان فرنجيّة. يبدو أن زعماء الموارنة تكتّلوا في قيادة جماعيّة عندما بدأ نظام الهيمنة الطائفي الذي زرعه الاستعمار الفرنسي، ورعاه الغرب في ما بعد، يتعرّض للاهتزاز والتهديد المباشر.

وقد ضغط الأحرار والكتائب والكتلة الوطنيّة على شارل حلو لعدم الرضوخ للمزاج الشعبي والرسمي العربي بقطع العلاقة مع دول الغرب بعد حرب .

حلو في رسالة

سريّة إلى إسرائيل: أتفهّم المشكلة التي يُشكّلها الفدائيّون ضد إسرائيل

والحلف الثلاثي (الذي فاز بنجاح باهر في انتخابات ــ ومن المُرجّح بقوّة ــ بناءً على العلاقة التي جمعت أحزابه مع حكومات الغرب، أنه تلقّى معونات أميركيّة مباشرة في الحملات الانتخابيّة، لكن الوثائق لم تظهر بعد في ذلك) لم ينتظر إلى نهاية شهر حزيران كي يصدر بياناً يطالب فيه بـ»تدويل لبنان» والحصول على ضمان خارجي لحياده (كأن لبنان كان مُشاركاً في حرب حزيران ــ راجع كتاب جيمس ستوكر، «ميادين التدخّل: السياسة الخارجيّة الأميركيّة وانهيار لبنان، -»، عن دار نشر جامعة كورنيل، ص. ). لا بل إن الجميّل أصرّ على حلو أن يعود السفير الأميركي على عجل بعد مغادرته ردّاً على إجماع عربي (ولبناني شعبي). وعرض على الأميركيّين نشر قوّات ميليشيا الكتائب لحماية أمن السفارة الأميركيّة. إن قراءة التقارير من تلك الفترة يؤكّد بصورة قاطعة أن الميثاق الوطني المزعوم لم يكن إلا كذبة انطلت على الزعماء المسلمين في لبنان، وكانت بنودها سارية فقط على فريق واحد، في رفض التحالف أو الاندماج مع المحيط العربي، فيما كان كل رؤساء الجمهوريّة الذين تعاقبوا بعد الاستقلال ــ بالتحالف مع الزعماء الموارنة ــ متحالفين سرّاً وبقوّة مع الدول الغربيّة، مُطالبين على الدوام بتدخّل عسكري أميركي أو فرنسي أو حتّى إسرائيلي في صالحهم. لقد خالف الزعماء الموارنة كل بنود «الميثاق الوطني» فيما كانوا يعظون الغير بجدوى «الميثاق» فقط كي يعزلوا لبنان عن محيطه العربي (ولم يكن المحيط العربي خاضعاً لمشيئة حكّام الخليج آنذاك).

ويرد في الوثائق أن حزب «الأحرار» و»الكتائب» ألحّاً في شهر حزيران وتمّوز من عام على السفارة الأميركيّة للحصول على السلاح والمعونات الماليّة. وكتب السفير الأميركي إلى حكومته في هذا الصدد أنه ــ وإن لم يوصِ بتلبية الطلبات الواردة ــ يوصي بأن تُبلَّغ «اللجان المعنيّة» في الإدارة الأميركيّة بالطلبات في حال تغيُّر توصيته في هذا الشأن. وفي حزيران من عام ، طلب شمعون رسميّاً من الحكومة الأميركيّة تسليحاً ومساعدات ماليّة باسمه وباسم بيار الجميّل وريمون إدّه، وذلك للتصدّي لنفوذ كمال جنبلاط «والمتطرّفين المسلمين». حتى شيخ العقل اليزبكي، رشيد حمادة (كان للدروز شيخا عقل يومها، والوثيقة الأميركيّة وستوكر أشارا إلى حمادة فقط كـ»زعيم درزي») طلب سلاحاً ومالاً من السفارة الأميركيّة في بيروت في ذلك الشهر. وكأن الردّ على هزيمة كان عند كل هؤلاء في تعزيز الحضور الميليشاوي لأعداء المقاومة الفلسطينيّة واليسار في لبنان (وحلفاء العدوّ الإسرائيلي كما سيتضح بعد قليل). ولم ينسَ حمادة هذا، المتحالف مع شمعون (والذي ذكّر بتحالفه مع «الحلف الثلاثي») أن يحذّر السفارة الأميركيّة من عواقب تجهيز الاتحاد السوفياتي لميليشيا كمال جنبلاط. والنائب اللبناني في حينه، أندريه طابوريان، التقى بالديبلوماسي الأميركي تالكوت سيلي في واشنطن، أثناء زيارة الأوّل للولايات المتحدة كي يطلب هو الآخر السلاح من أميركا (لم يتضمّن كتاب ستوكر طلب طابوريان هذا، لكنه نشر الوثيقة على صفحته). وورد في الوثيقة أن طابوريان أكّد أن السلاح لن يُستعمل إلّا ضد «المتطرّفين» وأنه سيردع «التحرّك الشيوعي المعادي» (ص. من الوثيقة التي نشرها ستوكر). (وطابوريان هو الوحيد الذي ذكر في لقائه مع الأميركيّين إسرائيل بالسلب، وأشار إلى اقتناع فريق من اللبنانيّين بخطورة المطامع الإسرائيليّة في لبنان).

لعب مطران

مقيم في القدس من أصل لبناني دور الرسول بين حكومة العدوّ والرئيس شارل حلو

أما العماد إميل بستاني، قائد الجيش، فقد التقى بالقائم بالأعمال الأميركي ــ بطلب من شارل حلو ــ وسأله عن إمكانيّة مساعدة الحكومة الأميركيّة للجيش اللبناني في السيطرة على «معارضة من قبل عناصر إسلاميّة في لبنان» أو للحدّ من جهود «عناصر شيوعيّة خارج لبنان» للقيام بأعمال «ضد مصالح أميركا أو ضد إسرائيل» (ص. ). وحذّر بستاني من أن الحكومة يمكن أن تنساق وراء دعوات عربيّة لمقاطعة أميركا وبريطانيا من دون «ضمانة أميركيّة واضحة». وفهم القائم بالأعمال أن طلب المساعدة يشمل طلب مساعدة عسكريّة. وعندما صدرت قرارات عن مجلس الوزراء اللبناني لمقاطعة شركات أميركيّة (مثل «كوكا كولا» و»فورد» و «أر.سي.إي») أكّد شارل حلو للقائم بالأعمال الأميركي أن القرارات لن تنفَّذ أو ستنفَّذ ببطء شديد. واللافت أن الحكومة الأميركيّة لاحظت أن الموقف الإسرائيلي من لبنان لا يتعلّق فقط بوجود الفدائيّين على أرضه، واليسار اللبناني، بل إن هناك أطماعاً إسرائيليّة في لبنان. وبالرغم من أن لبنان لم يشارك في الحرب بأي صورة من الصور، فإن الحكومة الإسرائيليّة أرهبت لبنان عبر اعتبار اتفاق الهدنة مُلغىً، كذلك لمّح رئيس الحكومة الإسرائيلي في شهر أيلول إلى أطماع إسرائيل في نهر الليطاني.

وعندما قصفت إسرائيل حولا في أيّار ، حاولت الحكومة الأميركيّة إفهام حليفتها بأن قدرة الحكومة اللبنانيّة على «محاربة الإرهاب» الفلسطيني وعلى الحفاظ على انحياز الحكومة نحو الغرب تضعف. وإلحاح الميليشيات اليمينيّة ذات القيادة المارونيّة في طلب التسلّح لم يتوقّف. ففي أكتوبر من عام أبلغ قيادي كتائبي القائم بالأعمال الأميركي أن الحزب قد يتقدّم بطلب تسلّح لميليشيا الكتائب، وأن للحزب قدرة قتاليّة بعدد رجل وقوّة كوماندوس بعدد يراوح بين و (ص.). وأكّد القائد الكتائبي ان للحزب ما يكفيه من السلاح الخفيف، لكنه يحتاج إلى «توحيد معايير التسلّح» وإلى سلاح ثقيل. لكن التقرير أوضح أن الحكومة الأميركيّة لن تلبّي الطلب الكتائبي. حتى النائب الشمعوني، فضل الله تلحوق، طالب الحكومة الأميركيّة بسلاح لمواجهة جنبلاط. (كان هذا في زمن كان فيه الشيوعيّون اللبنانيّون يصرّون فيه على «النضال البرلماني» الصرف).

أما الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت في ديسمبر عام الذي كان فيه إسكندر غانم قائد منطقة بيروت، وقد تلقّى تحذيرات قبل الاعتداء من أجل حماية المنشآت المدنيّة بما فيها المطار (وغانم هذا كان هو الرجل نفسه الذي لامه صائب سلام على تخاذله في اعتداء نيسان ــ عندما كان قائداً للجيش ــ واغتيال قادة المقاومة في فردان، ما أدّى إلى استقالة سلام بسبب رفض سليمان فرنجيّة صرفه من قيادة الجيش، أو محاسبته على أقلّ تقدير) فقد زاد من قلق الحكومة الأميركيّة على استقرار النظام اللبناني الحليف. لكن الحكومة الأميركيّة حوّلت الاعتداء الإسرائيلي الإرهابي على لبنان إلى مناسبة لتشجيع التفاوض وتبادل الرسائل بين الحكومة اللبنانيّة والحكومة الإسرائيليّة. ووجّه ليفي أشكول رسالة إلى الحكومة اللبنانيّة نوّه فيها بالسلوك «التعاوني» (ص. ) للحكومة اللبنانيّة (مع العدوّ) على مدى عشرين عاماً، لكنه حذّر من مغبّة من أي اعتداء من لبنان على إسرائيل. وكان شارل حلو، من دون علم رئيس حكومته ومجلس النوّاب، يسعى إلى تدخّل غربي أو نشر قوّات من الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني لحماية حدود الكيان الصهيوني من العمليّات الفدائيّة (لكن إسرائيل هي التي رفضت الفكرة التي كان ريمون إدّة من دعاتها العلنيّين).

«الأحرار» و«الكتائب»

ألحّاً في شهر حزيران وتمّوز من عام على السفارة الأميركيّة للحصول على السلاح والمعونات الماليّة