منذ أشهر طويلة يجري الإعداد لمعركة تحرير ​مدينة الموصل​ العراقية من عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي، بغطاء مباشر من الولايات المتحدة الأميركية، التي لا تزال حتى الساعة هي "ضابط الإيقاع" الأول في "بلاد الرافدين"، لكن الجديد اليوم هو بدء عملية "قرع طبول الحرب" بشكل كبير، حيث تتحدث بعض الأوساط عن أنها باتت قريبة جداً، وترجح أن يكون موعدها بين الأيام الأخيرة من الشهر الحالي والأيام الأولى من الشهر المقبل، لكن ماذا عن مرحلة ما بعد "التحرير"؟

خلال عودته من اجتماعات قمة مجموعة العشرين في هانغتشو، قرر الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ أن يتحدث عن مشروعه في العراق، بعد أن نجح في تحقيق جزء من أحلامه على الأرض السورية، عبر عملية "​درع الفرات​" التي بدأت من ​مدينة جرابلس​ وتضع ​مدينة الباب​ على رأس قائمة أهدافها، فرأى أن العراق بحاجة إلى عمل مشابه لحل مشكلة الموصل، مؤكداً أن بلاده ستضطلع بدور نشط في عملية تحرير هذه المدينة، ومن المتعارف عليه تاريخياً أن أنقرة تضع الموصل وحلب ضمن دائرة نفوذها الإقليمي.

ما تقدم لا يأتي في سياق الكلام السياسي، بل هو إمتداد لعمل عسكري كانت قد بدأت تركيا التحضير له قبل غيرها من اللاعبين الإقليميين والدوليين، عبر إرسال قوة عسكرية إلى معسكر يخضع لسيطرتها في منطقة بعشيقة العراقية، يتولى تدريب عراقيين وينفذ هجمات ضد مواقع "داعش"، بالإضافة إلى رعايتها قوات "الحشد الوطني" بقيادة المحافظ السابق ​أثيل النجيفي​، شقيق رئيس "ائتلاف متحدون" ​أسامة النجيفي​، لكن هذه ليست أوراق أنقرة العسكرية الوحيدة، بل هي تعتمد أيضاً على قوات "​البشمركة​" التابعة لإقليم كردستان العراق برئاسة ​مسعود البرزاني​، الذي تجمعه علاقات تحالف قوية مع الحكومة التركية.

إنطلاقاً من ذلك، يبدو أن اليد الطولى في عملية تحرير الموصل ستكون لأنقرة، التي إستقبلت في الأيام الأخيرة كلاً من النجيفي والبرزاني، وكان على رأس قائمة المباحثات الواقع في هذه المدينة، التي تريد واشنطن إطلاق المعارك فيها في المرحلة الراهنة، بهدف الإستفادة منها في السباق إلى البيت الأبيض، بين المرشح "الجمهوري" ​دونالد ترامب​ والمرشحة "الديمقراطية" ​هيلاري كلينتون​، ما دفعها إلى إرسال نائب وزير خارجيتها انتوني بلينكن لمتابعة الملف مع القيادات العراقية المختلفة، لا سيما أن أغلب هذه القيادات يطرح أسئلة حول المرحلة التي ستلي القضاء على "داعش".

بناء على هذا الواقع، يمكن فهم الجدل السياسي الذي رافق التحضير لهذه المعركة، حول القوى العسكرية المحلية التي ستشارك فيها، نظراً إلى أن هذه الأخيرة ترتبط بشبكة واسعة من التحالفات الإقليمية، فهنا يغيب التنافس الدولي الحاضر في الأزمة السورية، بين واشنطن وموسكو، حيث أن الولايات المتحدة هي اللاعب الوحيد، لكن بالنسبة إلى دول المنطقة هناك أكثر من لاعب، ويأتي على رأس القائمة كل من تركيا وإيران، من خلال اللاعبين المحليين، أي قوات البشمركة التي تمثل حكومة إقليم كردستان، بالإضافة إلى كل من الحشد الوطني والحشد الشعبي، من دون إهمال قوات الجيش العراقي التي ستكون حاضرة في هذه المعركة.

على هذا الصعيد، تستطيع أنقرة الإستفادة من كل من "البشمركة" وقوات "الحشد الوطني"، في حين أن طهران لديها علاقات متشعبة مع قوات "الحشد الشعبي"، كما أنها تملك القدرة على التأثير بقرار الحكومة المركزية في بغداد، والجدل بين الجانبين كان قد برز حول مشاركة "الحشد الشعبي" في تحرير الموصل، الأمر الذي يرفضه "الحشد الوطني" و"البشمركة"، في حين تصف قيادات "الحشد الشعبي" إبعادها عن المعركة بـ"المؤامرة"، وتدعو البرزاني إلى الإبتعاد عن المدينة، خصوصاً أنها تقع خارج نطاق إقليم كردستان، لعلمها أن الأخير يسعى إلى تمديد حدوده نحو محافظة نينوى، ضمن ما يسمى رسم الحدود الجديدة بالنار والدم، على قاعدة أن من يحرر الأرض يتولى إدارتها في المرحلة المقبلة، في حين أن النجيفي يسعى إلى بناء إقليم، أغلبيته من الطائفية السنية، يكون وضعه شبيهاً لوضع الإقليم الكردي، مستفيداً من مشروع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن السابق، القائم على تقسيم العراق إلى 3 أقاليم.

وفي حين تتحدث بعض الأوساط عما يشبه الصفقة بين طهران وأنقرة، متعلقة بالأوضاع في حلب السورية والموصل العراقية، تشير إلى أن مشاركة "الحشد الشعبي" في هذه المعركة ستكون شبيهة بتلك التي حصلت في الفلوجة، حيث إقتصرت على الحصار من دون الدخول إلى المدينة، لكنها تلفت إلى أن الأخطر هو مشروع تحويل محافظة نينوى إلى إقليم مستقل يضم ما بين 6 إلى 8 محافظات، بعد تحويل الأقضية التي تتألف منها المحافظة إلى محافظات، ويضم: سنجار مع المجمعات اليزيدية ناحية القحطانية، تلعفر وضواحيها مع العياضية والمحلبية، سهل نينوى، جنوب الموصل، مخمور، مدينة الموصل، مع العلم أن هذا الإقليم بحاجة إلى حل مشاكله مع إقليم كردستان، حول المناطق المتنازع عليها، خصوصاً أن "البشمركة"، بعد تحريرها كل من سنجار وسهل نينوى، أعلنت أنه سيتم إدارتهما من جانب إقليم كردستان.

في المحصلة، الجدل القائم حول مستقبل محافظة نينوى العراقية، إنطلاقاً من معركة تحرير مدينة الموصل من عناصر "داعش"، هو صورة مصغرة لمستقبل المنطقة، الذي يرسم بناء على إعادة ترتيب الخارطة السياسية المعروفة منذ إتفاقية سايكس - بيكو.