لتقييم أي شخص، وحتى أي عقيدة لا بل أي شيء ماديّ، يجب مُقارنته بشخص آخر وبعقيدة أخرى وحتى بشيء آخر. وعند مُقارنة تصرّفات بعض اللبنانيّين بتصرّفات "الأجانب" أثناء السفر، من لحظة الوصول إلى المطار، مُرورًا بالرحلة الجويّة وأسلوب التصرّف في الخارج، وصولاً إلى العودة إلى الوطن، لا يُمكن الشعور سوى بالخجل والغضب وحتى بالشفقة.

فمن اللحظة التي نصل فيها إلى المطار، تبدأ إستعراضات بعض اللبنانيّين، وخاصة بعض اللبنانيّات من تشاوف وتكبّر وإظهار للإشمئزاز من الآخرين، فكأنّ الحقّ بالسفر كان يجب أن يكون محصورًا بهذا المُتشاوف أو بهذه "المنفوخة" الشفاه والصدر، من دون باقي الشعب "العادي"، في مُقابل عدم رؤية أيّ نوع من أنواع التصنّع عند الإختلاط بالأجانب الذين يمشون ويتحدّثون ويتصرّفون بشكل طبيعيّ مئة في المئة.

وما أن يتمّ الإعلان عبر مُكبّر الصوت عن البدء بتسجيل صعود الركاب إلى الطائرة، حتى يهرول الكثيرون ليُشكّلوا مجموعة من الصفوف المُتداخلة بعضها ببعض بشكل فوضوي، وكأنّ الطائرة ستُقلع من دون الذين ينتظرون دورهم بشكل هادئ وراق في قاعات المُسافرين، في مُقابل إنتظام الأجانب في خطّ واحد مُنظّم، يُعطي الأولويّة للأطفال وللعائلات، ثم للمتقدّمين في السن، إلخ.

وعند الصعود إلى الطائرة، يتعرقل خط المرور مرارًا وتكرارًا بحديث جانبيّ هنا، وبمحاولة تثبيت مجموعة كبيرة من الحقائب في مكان ضيّق هناك، وحتى بشجار مع مضيفة أو مع راكب آخر هنالك، لسبب تافه على الأغلب، في مُقابل تحرّك الأجانب بشكل سريع ومنظّم ومهذب، بهدف عدم التسبّب بأي عرقلة أو تأخير للآخرين.

وعند التدقيق في رقم مقعدك على متن الطائرة، الإحتمال كبير أن تُفاجأ في بعض الأحيان بجلوس آخرين مكانك، وعند محاولة تنبيههم إلى الخطأ الذي إرتكبوه مُحتفظًا بعبارة "الطائرة ليست باصًا لتجلسوا أينما شئتم" غصّة في قلبك، يأتيك الردّ مَمزوجًا بكثير من الإنزعاج "لا بأس، يمكنك الجلوس في مكان آخر، أين المُشكلة؟!"، في مُقابل غياب هذا "الغباء" عن تصرّفات "الأجانب"، حيث أنّ حسن التصرّف يُرافق الصغار قبل الكبار.

وعند الوصول إلى الخارج، وفي حال كانت الرحلة سياحيّة ترفيهيّة، تبدأ إستعراضات البعض عن مزايا الفندق النخبوي الذي إختاروه والذي لا يحتمل الشعب "العادي" دفع تكاليف الإقامة فيه. وفي حال دخلت في حديث جانبي مع شخص مُسافر على متن الرحلة نفسها والوجهة عينها، تبدأ محاولة تحديد موقعك الإجتماعي عبر السؤال التقليدي الذي يسأله الكثير من اللبنانيّين، وهو: "ما هي مهنتك؟" باعتبار أنّ الجواب قد يحملهم إلى إستنتاج وضعك المادي وإلى تحديد كيفيّة التعامل معك! في المُقابل، إنّ التعالي بخلفيّات إجتماعيّة أو مادية يغيب تمامًا عن تصرّفات "الأجانب"، حيث أنّ أسئلتهم تتمحور في أكثر الأحيان حول بلدك ومزاياه، وحول ما يُمكن أن يُشكّل "نقاط إلتقاء" مُشتركة، فلا أحد من "الأجانب" يأبه إن كنت مهندسًا أم نجاراً، طبيبًا أم نادلاً في مطعم، إلخ. ولا أحد يأبه إن كنت غنيًا أم فقيرًا، من عائلة مشهورة أو تحمل شهرة لم يسمع بها أحد من قبل، حيث أن التعامل الإنساني المُتبادل والمُتساوي يأتي في الطليعة.

وفي الخارج أيضًا، يُفجّر بعض اللبنانيّين عقدهم المزمنة وكبتهم المتأصل إن كان جنسيًا أم غير ذلك، فيقومون بأمور لا يفعلونها عادة، ويتصرّفون بأسلوب مُغاير لطبيعتهم، ووجود بعضهم ملحوظ في كثير من الأحيان حتى ضمن مجموعة كبيرة من الأشخاص، بسبب فوضويّتهم وصراخهم وقهقهاتهم وحركاتهم التي ترمي إلى لفت النظر، وكذلك بسبب إستغراقهم في إلتقاط آلاف الصُور تمهيدًا لفصل جديد من التشاوف الفارغ على "الأصدقاء الوهميّين" على صفحات التواصل الإجتماعي المزعوم. في المُقابل، تغيب هذه التصرّفات عن الأجانب الذين يبقون على طبيعتهم أيّا تكن، والذين لا يقومون إلا بما يريدونه ويرغبون به، من دون الأخذ في الإعتبار ردود فعل أو رأي الأخرين به.

وعند العودة إلى لبنان، وبعد تكرار كل سيئات الفوضى والتشاوف المذكورة أعلاه، يبدأ إستعراض التعالي من لحظة لمس إطارات الطائرة سطح المدرج، والتي غالبًا ما تترافق مع تصفيق "النجاة من الموت" على الطريقة اللبنانيّة، وذلك من خلال المُسارعة إلى رفع الهواتف المحمولة وإجراء الإتصالات الهاتفيّة، والتحدّث بصوت جهوريّ مع محاولة الإيحاء بأنّ المُتلقّي هو سائق خاص، علمًا أنّه غالبًا ما يكون أحد أفراد العائلة أو سائق سيارة أجرة تابع لأحد "دكاكين" النقل العام.

وما أن نصل إلى محيط مكان إلتقاط الحقائب، حتى يُصرّ الجميع على الوقوف في أوّل مخرج السكّة الدوّارة، ليكون أوّل شخص يحمل حقيبته ويرحل، ولو بفارق ثوان معدودة عن الآخرين، ولو على حساب تجمهر العشرات بشكل مزعج في بقعة لا تتجاوز المترين المُربّعين!

في الخلاصة، لا شكّ أنّ الكثير من اللبنانيّين بعيدون كل البعد عن هذه الفئة المذكورة أعلاه، صاحبة التصرّفات التافهة، لكنّ المُشكلة أنّه حتى عند الرغبة في الهروب من تخلّفنا الحضاري في هذا البلد، تواكبنا في سفرنا وفي هروبنا المُوَقّت من واقعنا المُزري-إذا جاز التعبير، مجموعة من الناس يتأصّل فيها هذا التخلّف، أبًّا عن جدّ!