على مدى أشهر طويلة، عمل تنظيم "داعش" الإرهابي على الترويج لمعركة نهاية العالم في بلدة دابق في الشمال السوري، حيث حوّلها إلى رمز معنوي عقائدي كبير، سعى من خلالها إلى إثبات صوابية منهجيّة وشرعية معاركه، على قاعدة أنه بات يمثل "الدولة الإسلامية" بزعامة "الخليفة" ​أبو بكر البغدادي​، مستنداً إلى أحاديث واردة في السنّة النبوية عن قتال المسلمين مع الروم في دابق، وان الجيش الذي سيواجه الروم سيكون من خيار أهل الأرض، لكن المفاجأة كانت بأن هذه المواجهة إنتهت خلال ساعات، نجحت فيها فصائل "الجيش السوري الحر"، المدعومة من تركيا، في السيطرة على البلدة.

بالرغم من أن "داعش" لم يقدم على قتال الفصائل المدعومة من أنقرة، بشكل جدي، منذ الإعلان التركي عن ​عملية درع الفرات​، التي وضعت على رأس قائمة أهدافها محاربة التنظيمات الإرهابية، وفق تصنيف الرئيس ​رجب طيب أردوغان​، بالإضافة إلى تحقيق حلمه في إقامة منطقة آمنة ضمن الأراضي السورية، إلا أن الطريقة التي خسر فيها "دابق" تدفع إلى طرح علامات إستفهام، خصوصاً أنها تمثل ضربة معنوية لكل "الأسطورة" التي بنى عليها التنظيم الجانب العقائدي منه، بهدف جذب المناصرين من مختلف دول العالم.

في الأيام الأخيرة، سعى التنظيم إلى التقليل من أهمية هذه المعركة، مروجاً لنظرية وجود معركتين في دابق: الملحمة الصغرى الحالية والملحمة الكبرى التي ستأتي لاحقاً، مروجاً أن خسارة المواجهة الراهنة لا قيمة لها، وهو الأمر الذي كان الناطق السابق باسم "داعش" ​أبو محمد العدناني​ قد بدأ الترويج له، قبل مقتله، من خلال الحديث عن أن خسارة منطقة أو مقتل قائد لا يعني إنتهاء الحرب، بل على العكس من ذلك هي لا تزال في بداياتها.

وقد يكون لافتاً أن يعمد "داعش" إلى الترويج لهذا السيناريو عبر المجلة الناطقة باسمه بشكل رسمي، والتي تحمل نفس اسم البلدة التاريخية، أي دابق، مشيراً إلى أن "هذا الكر والفر في القرية وما حولها، "​معركة دابق​ الصغرى"، ستنتهي بملحمة دابق الكبرى، لا محالة، بعد أن يأتي تأويل ما وعد الله ورسوله واقعاً، من صلح بين المسلمين والروم ثم غدر الروم بهم، وبعده فتح القسطنطينية (ثم رومية)"، فالتنظيم الإرهابي اليوم لا يجد مانعاً من توظيف الدين كما يحلو له، بغرض خدمة الأهداف التي يريد تحقيقها، مع العلم أن هزيمته الحالية جاءت على يد من يدعي حماية المسلمين والدفاع عنهم، أي الرئيس التركي، الذي يطمح أيضاً إلى أن يتحول إلى "خليفة" أو "سلطان عثماني" من جديد.

وفي حين تضع هذه المعركة أنصار البغدادي أمام جولة جديدة من الصراع الفكري الإرهابي، لا سيما داخل الجماعات المتطرفة، بعد خسارته أو إنسحابه من دابق، ستفتح آفاق واسعة أمام أنقرة من أجل إستكمال مشروعها القديم الجديد، والذي تلقى دفعة قوية بعد الإنقلاب العسكري الفاشل الذي وقع في تركيا، حيث نجح أردوغان في تحويل الخطر إلى فرصة من أجل إستعادة زمام المبادرة، خصوصاً بعد أن تمكن من اللعب بجدارة على التناقضات الدولية، بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الإتحادية، والإقليمية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران، ليعود بقوة إلى قلب الأحداث السورية والعراقية معاً، فاتحاً باب النقاش حول معاهدة لوزان التاريخية.

بالتزامن مع هذه الوقائع، لا يجب إهمال ما تشكله دابق بالنسبة إلى تركيا أيضاً على المستوى المعنوي، فهي ترمز إلى معركة "مرج دابق" التي انتصر فيها العثمانيون على المماليك، بعد أن نجحوا بالقضاء على معظم الجيش المملوكي، وكانت هذه المواجهة نقطة الإنطلاق لفرض سيطرتهم على كامل الأراضي السورية، ومن ثم ضمها إلى السلطنة العثمانية لنحو 400 عام، فهي تمثل بالنسبة إلى "السلطان الجديد" هذا الإرث "العظيم" الذي يطمح إلى إعادته على الساحة العالمية والإقليمية، بعد أن سدت بوجهه أبواب الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي.

في المحصلة، تراجع "داعش" عن معركة "نهاية العالم"، بعد أن حولها إلى مجرد "ملحمة صغرى" على طريق "الملحمة الكبرى"، ليفتح المجال أمام أردوغان، للإنتصار بالمواجهة المعنوية على طريق "السلطنة الجديدة"، بالرغم من الإنتقادات التي يتعرض لها على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية.