على الرغم من "النجاحات" التي تحققها القوى المشاركة في عملية تحرير مدينة الموصل، التي أعلن عنها رئيس الوزراء العراقي ​حيدر العبادي​ فجر أمس، بطريقة تذكر بـ"الإنتصارات" التي تحققها فصائل "الجيش السوري الحر"، المدعومة من تركيا، في ​عملية درع الفرات​، إلا أن جميع المؤشرات توحي بأن المعركة "الحقيقية" لم تبدأ بعد، حيث تم تأجيل موعدها إلى ما بعد تحقيق الهدف الأميركي الإستراتيجي منها، أي تحرير المدينة الذي سيلعب دوراً بارزاً في الإنتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، الأمر الذي ينذر بنشوء صراعات بين "حلفاء" اليوم لا تنتهي في وقت قريب.

من حيث المبدأ، تحتاج واشنطن إلى هذا "الإنتصار" المعنوي على عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي، قبل مغادرة الرئيس ​باراك أوباما​ البيت الأبيض، لكن في المقلب الآخر هي لم تنجح في تجاوز الخلافات حول مستقبل الموصل السياسي، التي تظهر بشكل واضح عبر التجاذبات العراقية التركية شبه اليومية، حيث تصر أنقرة على المشاركة في هذه المعركة، نظراً إلى أن أهمية الموصل بالنسبة لها توازي تلك التي تحظى بها مدينة حلب السورية، في حين ترفض بغداد هذا الأمر بشكل مطلق، بسبب مخاوفها من الأهداف التركية، المتمثلة بالسعي إلى إقامة إقليم جديد في محافظة نينوى، لا يختلف كثيراً عن إقليم كردستان الذي يرأسه ​مسعود برزاني​.

هذه المعركة لم يكن من الممكن أن تنطلق لولا الإتفاق حولها بين بغداد وأربيل، الذي حصل خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها برزاني إلى العاصمة العراقية، بالرغم من الإعتراضات التي أبدتها العديد من الكتل السياسية حولها، لا سيما تلك التي من المفترض أن تكون حليفة لرئيس الوزراء، لكنها اليوم تجد نفسها أقرب إلى منافسه المحتمل على منصبه رئيس الوزراء السابق ​نوري المالكي​، الراغب بالعودة إلى سدة الحكم إنطلاقاً من تفاهمات جديدة، بالإضافة إلى ظهور شخصيات أخرى طامحة بالوصول إلى هذا المنصب.

إنطلاقاً من هذه الوقائع، التي رافقت التحضيرات إلى هذه المواجهة المهمة على المستوى العراقي الداخلي، يفترض أن يكون الصراع حول مستقبل محافظة نينوى، التي تشكل الموصل احدى مدنها، هو المعركة الحقيقية على مختلف الصعد، سواء كانت المحلية بين الأفرقاء العراقيين الذين يحملون مشاريع مختلفة، بين الرغبة في الذهاب إلى مشاريع تقسيمية جديدة والحفاظ على وحدة البلاد، أو الإقليمية حيث تسعى كافة الدول المؤثرة إلى إستغلال الفراغ الذي يخلفه القضاء على "داعش" لحجز موقع لها على الخارطة العراقية، وهنا يبرز الخلاف حول مشاركة "​الحشد الشعبي​"، المدعوم من الجمهورية الإسلامية في إيران، ودور القوات التركية المتمركزة في معسكر بعشيقة و"​الحشد الوطني​" بقيادة المحافظ السابق ​أثيل النجيفي​ المدعوم من أنقرة.

وعلى الرغم من أن الإتفاق بين ​الحكومة العراقية​ وقيادة إقليم كردستان لا يزال غامضاً، في ظل الخلافات السابقة حول العديد من الملفات بينهما، لن تكون الولايات المتحدة منزعجة من الواقع الحالي بأي شكل من الإشكال، فهي قادرة على الإستفادة من أي مسار قد تأخذه الأحداث، ففي حال نجاح العملية العسكرية من دون إثارة الصراعات السابقة بين المكونات المحلية تستطيع القول أنها حققت إنجازاً على صعيد الحرب على الإرهاب، أما في حال تفجرت الأزمات السابقة فهي جاهزة لتحقيق مشروعها السابق، القاضي بتقسيم العراق إلى 3 أقاليم، وبين الأفرقاء العراقيين من يتبنى هذا التوجه بشكل علني، وهو ما تشجّعه أنقرة بشكل مطلق، نظراً إلى أن الإقليم السني سيكون تحت رعايتها المباشرة، في وقت تملك فيه أفضل العلاقات مع نظيره الكردي.

حتى الساعة، العمليات العسكرية في أيامها الأولى تسير بشكل جيّد، لكن هذا لا يمنع إستمرار التجاذبات السياسية بين مختلف الأفرقاء، خصوصاً بالنسبة إلى الدور التركي، إلا أن صوت المعركة قد يرتفع ليطغى عليها من دون أن ينجح في حسمها، لتكون الأوضاع مفتوحة على جميع الإحتمالات بعد إنتهاء عملية التحرير، لا سيما أن الجميع يعلم بأن مستقبل منطقة الشرق الأوسط سيرسم على وقع نتائج معركتي الموصل وحلب، والحديث عن أن واحدة مقابل الأخرى ليس بجديد على الإطلاق، بل هو يعود إلى أيام الإتفاق الأميركي الروسي الأخير.

في المحصلة، معركة العراق الأساسية لم تكن مع الإرهاب وحده، بل هي في الصراعات بين مختلف اللاعبين الراغبين بوراثة المناطق التي كان يسيطر عليها "داعش"، وهو ما يفسر رغبة الجميع بالمشاركة في المعركة الأهم، أي عملية تحرير الموصل.