لن ينتشيَ الجنرال ميشال عون الاثنين بأغنية “من فرح الناس عرفنا إنّك جايي”، ليس لأن الجلسة الموعودة ستخيّب آماله الرئاسية المضمونة، بل لأن صاحب تلك الأغنية رحل أمس. رغم قيمتها وقيمة بطلها الموسيقار، سيكون كثيرون آخرون من جيل أعقب ملحم بركات جاهزين لتسخير حناجرهم وألحانهم للرئيس الآتي من وجداناتٍ جماعيّة غابرة وحاضرة.

هي ساعاتٌ تفصل اللبنانيين عن مشهديتين متناقضتين يجمعهما مجدُ التاريخ. مجدُ أبو مجد الذي حفر في الذاكرة الفنية المعاصرة عطرًا مغنًّى، ومجدُ قائد الجيش الوافد الى قصر بعبدا ليستهلّ حلمًا انتظره أبناء التيار الوطني الحرّ أكثر من سبعةٍ وعشرين عامًا، وها هم اليوم يرسمونه في الشوارع والميادين وفي القصر المهجور بعدما اعتادوا رسمه طوال عقدين وأكثر في مخيّلاتهم.

بين عقارب الساعة والرئاسة

“ليل السبت - الأحد سيضبط اللبنانيون ساعتهم ساعة الى الوراء، أما الاثنين فسنضبط عقارب الوطن إلى الأمام: نحو المستقبل المشرق الذي طالما انتظرناه... مستقبل لبنان مع العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية بإذن الله”. هي خير مقاربة لا بل خير صورةٍ للتحضيرات التي ينغمس فيها البرتقاليون والتي عبّر عنها في هذه الكلمات ابنُ التيار وعضو تكتّل التغيير والإصلاح النائب أمل أبو زيد على صفحته على “الفايسبوك”. كلّ شيء بات جاهزًا. كلُّ تفصيل بات أهلًا للانضمام الى المشهدية العامة ليرقى الى حجم الحدث. كلُّ برتقالي أعدّ عدّته إمّا للاحتفالات والتهاني الشعبية وإما ليكون شريكًا في صنع الحدث وتغطيته. كلُّ مراسلٍ حدّد وجهة تغطيته بعدما وُزّعت شبكة برامج الشاشة البرتقالية على الجميع وعُمِّمت، وبعدما توجّه وفدٌ مكتمل من فريق أخبار الشاشة نفسها الى الرابية لوضع الجنرال في صورة اللمسات الإعلامية الأخيرة ولاستباق الاحتفالات بقالب حلوى بسيط من “أبناء الوفاء الى سيّده”، وهو ما بدا أشبه بزيارةٍ وداعية للجنرال في الرابية لموافاته في قصر بعبدا.

فوضى جميلة...

كلُّ ما في المشهدية العامة الداخلية والخارجية يشي بطغيان العفوية و”الفوضى الجميلة” على التنظيم المتشدّد المحفوف بمحظوراتٍ ومحاذير. لم يُرِده عون “انتصارًا خشبيًا”، بمعنى آخر لن يحمّل قدميه عناء الوقوف طوال اليوم في البرلمان من أجل الابتسام في وجه الرسميين والدبلوماسيين فيما “شعبُه العظيم” ينتظره في الخارج. لم يُرِدها العماد “بروتوكولية” حدّ تجاهل محبيه لحساب الصور التذكارية. لم يُرِدها صورةً رسميّة على جدار ولا أغنية مهلّلة بالفوز سرعان ما يتناساها الناس يوم تخطو قدماه أولى عتبات القصر الفاخر. هكذا أرادها هو وهكذا أرادتها خلايا النحل العاملة على إتمام الاستحقاق بأفضل الصور.

“انفلاشية” احتفالية

18 أغنية جديدة ستواكب الحدث بأصواتٍ لبنانية مختلفة. 18 أغنية جديدة ستضجّ بها ساحة الشهداء في تمام الساعة الثامنة ليلًا من يوم الانتخاب الطويل، حيث يحتشد مؤيدو عون عفويًا مع ثلّةٍ من الفنانين للاحتفال موسيقيًا بفخامة العماد. أما عدا ذلك، فارتأى منظمو الاحتفالات ترك المواطنين على سجيّتهم هذه المرّة، من خلال عدم حصر مراسم الابتهاج في بقعةٍ واحدة، بل توزيع العدسات على مناطق مختلفة في أقضية متشعّبة من شتى المحافظات، على أن تلتزم بعض الأقضية باحتفالاتٍ مركزيّة على مستوى القضاء برمّته كجبيل وكسروان. تلك “الانفلاشية” الاحتفالية إنما أراد من خلالها المنظمون أن يستبقوا الانتخاب ويعقبوه برسالةٍ واضحة مفادُها أن انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهورية هو انتصارٌ لجميع اللبنانيين على امتداد الوطن.

سلسلة بشرية

عدا الصورة الرسمية التي ستعانق جدران المؤسسات الرسمية، أعدّ الفريق العامل مع العماد عون كلّ العدّة لطبع مئات آلاف الصور على أن يُترَك لكلّ منسّق ومسؤول في اللجنة المركزية تحديد العدد الذي يحتاج اليه في نطاق حملاته. وفيما لا تزال تلك الصور تنتظر طبعها وتوضيبها قبيل توزيعها، بدأت صورٌ عملاقة مذيّلة بشعار “لبنان القوي” ترتفع في الساحات وعند المفارق الأساسية من العاصمة والمدن الرئيسة، وآخرها صورةٌ تعانق سماء ساحة ساسين في الأشرفية مع أشرطةٍ برتقالية وبيض. وعلمت “البلد” أن “العماد عون أرادها تهانيَ سريعة وشعبية بسيطة بما يخوّله مزاولة عمله في اليوم التالي لانتخابه أي عمليًا فجر الثلاثاء، بيد أن المسؤولين عن مراسم التشريفات في القصر الشاغر “موقتًا” نصحوه بالتزام بروتوكول تقبُّل التهاني داخل أسوار القصر الرئاسي الذي سيعجّ بناسه من لبنان وخارجه، على أن يواكب منتظرو هذه اللحظة من عشاق التيار الوطني مراسم التهاني بسلسلةٍ بشريّة تصل الى “بيت الشعب” وتنتهي باحتفالٍ عفوي في قصر سيشغله عون ستّ سنوات.

التحكُّم بالأدرينالين...

لا يبدو عون عشيّة الاستحقاق كتلميذٍ يعجز عن النوم لأنه سيخضع في اليوم التالي لامتحانٍ رسمي. فلتراكم سني العمر حقُّه، وللخبرات التي حفرت في شخصه كلمتها أيضًا. كثيرًا ما يجيد الرجل التحكّم بأدرينالينه وكثيرًا ما يُخرِس حماسته الرئاسية التوّاقة الى حفر بصمةٍ ما في السجلات الرئاسية التي ستضيف اسمَه الى صفحاتها بصفته الرئيس الثالث عشر للبنان. وليس الاستعجال سمةَ العماد وناسه وحدهما، بل ويكيبيديا أيضًا التي استبقت جلسة الاثنين وأعلنت فوز العماد عون برئاسة الجمهورية، لا بل ذيّلت سيرته الذاتية بلقب “فخامة الرئيس”. أيًا يكن، يبدو الجنرال على ما يؤكد زوّاره هادئًا أكثر من أيّ وقتٍ، واقعيًا حدّ تكرار عبارة: سأكون كما كنتُ دومًا لجميع اللبنانيين وليس للتيار الوطني فحسب”. بانسيابيةٍ لا يعرفها عنها كثيرون، يخاطب العماد زوّار الرابية التي لا تهدأ هذه الأيام. بصحةٍ حديديّة تقطع الطريق على جميع المراهنين على وهنه الجسدي والغامزين من قناة عقده الثمانين، يستعدّ الجنرال وسيّدته الأولى التي لم تعنِها لعبة الأضواء يومًا، للانتقال الى قصر بعبدا الذي أزيل الغبار عن أثاثه وعادت الحياة لتنبض في نواصيه المعتمة.

القرار “النكائي” لن يبدّل شيئًا

لم يكن يوم عون أمس عاديًا ولن يكون كذلك بعد اليوم. فبين استقبالات الرابية “الرفيعة” وعلى رأسها الموفد السعودي، وبين زيارتَيه الى السراي وكليمنصو، لا مجال زمنيًا طويلًا أمام أبناء التيار. هي لمساتٌ أخيرة يواكبها الإكليروس الذي بارك وسيبارك كما الأكاديميون الذين سيغيبون عن مدارسهم وجامعتهم من دون أن يبدّل استمرار مؤسسات “أمل” في التدريس العادي يوم الاثنين شيئًا في المعادلة: عون رئيسًا بعد يومين، خطاب القسم بات جاهزًا، ووجوده في المؤسسات سيتجاوز إطار الصورة المعلقة على الجدران.