لا حاجة الى قول الكثير عن “ابتداع” اللبناني مقارباتٍ هزلية عند كلّ استحقاق حتى لو كان ذاك الاستحقاق أميركيًا بامتياز. لا حاجة الى التساؤل عن تأثير انتخاب ​دونالد ترامب​ على الساحة اللبنانية لأنه لو تسنّت له قراءة ما كُتِب عنه في لبنان حصرًا لسقط البلد الصغير من الأجندة الأميركية وهو كذلك أصلًا أو في أحسن الأحول لتقزّم حدّ اختفائه في السياسة المرسومة للشرق الأوسط.

لا شرق أوسط جديدًا بعد اليوم بعدما تلاشت أحلامُ من كانت شريكةً فيه يومًا بمباركتها حروب بلادها في العراق وأفغانستان وسورية وليبيا. هُزِمت هيلاري كلينتون ومعها هُزِمت استطلاعاتُ الرأي وأبعد من ذلك الاحلام التوسعيّة العسكرية في المنطقة بحثًا عن مكاسب استراتيجية واقتصادية. هي مرحلة ترامب.

ممانعٌ بالفطرة!!!

هو زمنُ ترامب الذي سارع كثيرون من اللبنانيين الى “خندقته” في محور الممانعة معلنين ظفَر هذا المحور برمّته. يخطئ هؤلاء ويصيبون في آن. فمن جهةٍ، يمكن الركون الى مواقف الرئيس الروسي المُعلَنة الداعمة لترامب للنفاذ الى رسم مرحلةٍ جديدةٍ من العلاقات الأميركية الروسية لا تشوبها شائبة وما ستثمره من انعكاسات إيجابية على منطقة الشرق الأوسط لا سيما في الساحة السورية. كما ولا يمكن غضّ الطرف عن الفتورات المتصاعدة بين الكرملين والبيت الأبيض بإدارة الديمقراطيين حول ملفاتٍ جمة وإن نجحا في إرساء معادلات هدنةٍ هشّة في سورية، ومحادثاتٍ “فشّارية” في جنيف. ومن جهةٍ أخرى، لا يصيب هؤلاء في قولهم لمجرّد التماس مواقف ترامب العدائية تجاه إيران وتصويبه في غير مناسبة على الاتفاق النووي، عدا عن حقيقة الدعم الصهيوني الصريح له ولمخططاته في تثبيت القدس عاصمة دائمةً لإسرائيل.

ما هي الصفعات؟

كان على بعض اللبنانيين أن يربطوا انتخاباتهم الرئاسية بنظيرتها الأميركية، ليتّضح في نهاية المطاف أنهم كانوا سبّاقين فيها، حكمًا ليس في آلية التوافق والتصويت والفرز “الحجرية”، بل في الموعد الزمني الذي أسقط الحديث عن هذه الصلة، ليدمّرها بشكل تام فوزُ ترامب غير المتوقع نهائيًا، حتى لو أن الأجواء المتسللة من السفارة الاميركية في لبنان في سهرتها الطويلة لأهل الصحافة والسياسة والأصدقاء أمس الأول، كانت تصبُّ بهمساتها في صالح ترامب خلافًا لكل الاستطلاعات. أما إذا كان من حديثٍ لبناني في أوساط المتعقّلين المحللين عن صفعاتٍ يحملها انتخاب ترامب، فهي حكمًا لن تكون شرق أوسطية بقدر ما ستكون على الصورة الآتية: صفعةٌ لاستطلاعات الرأي والمتحكمين فيها في الدرجة الأولى؛ صفعة للمحور الديمقراطي الذي أثقل الأميركيين بأخطائه الداخلية الخارجية؛ صفعةٌ للحقوقيين المحليين الذين يمكنهم أن يناموا قريري الأعين بعدما اكتشفوا أن أميركا عنصريّة أيضًا هذا في حال أصروا على توصيف انتصار ترامب بـ”العنصرية”؛ صفعةٌ لخصوم روسيا التي أعلن رئيسها علنًا دعمه لترامب واصفًا إياه بالرجل “القوي”؛ صفعةٌ لداعش في الدرجة الأولى ولمشهديات اللجوء والتسيّب تحت عناوين ديمقراطية فضفاضة؛ صفعةٌ للوجود الأميركي العسكري في الشرق الأوسط مع عزم ترامب على العودة ببلاده الى الداخل؛ وأخيرًا صفعة لحسابات نساءٍ ما أيّدن كلينتون سوى لأنها امرأة.

هل يعرف لبنان؟

ماذا عن لبنان؟ هو السؤال “الكليشيه” البديهي الذي يطرحه كلّ لبناني على نفسه والذي يمنح فرصةً ذهبية للمحللين أو مدّعيه لغَرف ما لديهم من نظرياتٍ، منها الراكنُ الى رؤى هنري كيسنجر التقدمية، ومنها المُعصرَن المتأثر بدخول عنصر “داعش” على الخطّ. في المحصّلة، قد يبدو السؤال الأكثر جدوًى: هل يعرف ترامب لبنان أصلاً؟ هل سمع عنه؟ هل يعرف أين يقع؟ أيعلمُ الرئيس الأميركي الجديد مثلًا أنه بلدٌ مختلط طائفيًا وأن رئيسَه هو المسيحي الأوحد في الشرق الأوسط؟ أيعرف أيضًا أن اللبنانيين المنتشرين في بلاده على ضعف نسبتهم منحوه في غالبيته أصواتهم لأنهم وجدوا فيه شخصيةً إنقاذية لبلدَيهم: أميركا ولبنان؟ أيعي الرئيس المشاغب أن بعضًا من أهل هذا البلد الذي يجهله وسيتجاهله يرفضون الاعتراف بأنهم عرب في الفطرة؟ قد يعرف ترامب القليل عن لبنان الذي “تشدّق” بالدفاع عن مسيحييه وحمايتهم في أحد خطاباته، ولكن مجرّد معرفته بهذا البلد/التفصيل لا يعني أنه سيزوره أو أنه سيكون في سلّم أولوياته الشرق أوسطية التي تتصدّرها محاربة “داعش” من دون أن تشبه مخططات منافسته الراسبة والتي كانت قائمة على دعم المعارضة المسلحة وترسيخ بقاء الولايات المتحدة عسكريًا في المنطقة منعًا لتوسّع النفوذ الروسي.

صحافي أميركي يقرأ

فيما يؤكد بعض المحللين المحليين أن ترامب سيتبنى قريبًا خطابًا تصالحيًا مع العرب وتحديدًا مع المسلمين لتبديد هواجسهم بعدما استخدمهم في “الدعاية السياسية” تجييشًا للأصوات الناقمة على الإرهاب في الغرب، يشدد الصحافي الأميركي والكاتب والمحلل في وكالة الأنباء الأميركية The Media Line ألبير ناشماني في حديثٍ لـ”البلد” على أن “ربط انتخاب ترامب بالساحة اللبنانية يستولد هواجس قائمة منذ زمن بالنسبة الينا نحن الأميركيين وهي هواجس مرتبطة بحزب الله ودوره حيث إن انتخاب ترامب قد يجعله أقوى ويعزز نفوذه في لبنان ونفوذ حلفائه وعلى رأسهم الرئيس السوري بشار الأسد”. وما إذا كان هذا التغيير المفاجئ قد يؤثر على العقوبات الأميركية المفروضة على حزب الله يقول ناشماني: “لا أعتقد أن العقوبات ستُرفَع بل ستستمر لأن انتخاب ترامب لا يغير شيئًا في النظرة الأميركية الى حزب الله وفي تصنيفه على لائحة الإرهاب العالمية. ثمّ إن السياسة الخارجية الأميركية غير مرتبطة بشخص بل هي استمرارية”. أما عن الداخل الأميركي وردود الأفعال المتفاوتة فيتلقف ناشماني: “هو ثمنُ أخطاء الرئيس السابق باراك أوباما الذي لم يكن قويًا بما فيه الكفاية في الشرق الأوسط، وتراجع عن كلامه في غير مناسبة لا سيما عندما اعتبر أن استخدام النظام السوري الكيميائي خطّ أحمر ثم لم يتعامل مع الموضوع بجدية وحزم، وهذا التخاذل سمح لروسيا بالتوسّع والنموّ في المنطقة. شخصيًا أتكلم على أفضلية خيار ترامب لأن الاميركيين يريدون في الواقع أميركا قوية”.

إبرة في كومة قشّ

إذًا على مستوى لبنان الذي لا يشكّل حتى نقطة في بحر هموم واشنطن عمومًا وترامب خصوصًا يبدو الخوض في تحليلاتٍ عن تداعيات المفاجأة الأميركية على البلد الصغير أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قشّ، لا سيّما أن أيًا من الخطط المرسومة سلفًا من دعمٍ للجيش والقوى الأمنية والمجتمعات المحلية والنشاطات الاجتماعية لن يتغيّر. أما في المنطفة، فيبدو أن على الأميركيين كما على المجموعات الصغيرة الطامحة الى الاستقلالية أن يعتادوا على فكرة الشرق الأوسط القديم الباقي على ما هو عليه، أو في أحسن الأحوال غير الخاضع لمخططاتٍ توسّعية كانت كلينتون لتحمل شعلتها لو حالفها الحظّ... ولم يفعل!