كشفت أحدث الإحصاءات المُتخصّصة أنّ عدد الأشخاص في العالم الذين يستخدمون هاتفًا "ذكيًّا" حاليًا يتجاوز الملياري شخص، وأنّه بحلول العام 2020 المُقبل، سيقفز هذا الرقم إلى أكثر من خمسة مليارات شخص. وبيّنت الإحصاءات نفسها أنّ المُستخدمين صاروا أكثر من أيّ وقت مضى أسرى هذه الهواتف وما تُقدّمه من خدمات(1). وفي ظلّ التطوّر المُستمرّ للهواتف الجوّالة المُصنّفة "ذكيّة"، وتزايد عدد مُستخدميها بوتيرة مُضطردة، تنقسم الآراء بشأن ما إذا كان هذا الإختراع نعمة العصر أم نقمته؟!
لا شك أنّه يُمكن إعتبار الهاتف الخلوي "الذكي" نعمة من نِعم العصر ومن الإبتكارات التي غيّرت حياة الإنسان في كثير من النواحي. وفي هذا السياق، تمّ طيّ صفحة فُقدان المسار على الطريق، وعدم إيجاد العنوان المناسب لأي وجهة جغرافية مُستهدفة. وجرى التخلّص من قلق الليالي على الأهل والمعارف حتى عودتهم إلى المنزل، ومن ساعات الإنتظار الطويل من دون الحصول على أجوبة على تساؤل من هنا وعلى قلق من نتيجة من هناك. والأهم أنّه تمّ تقصير المسافات بين الناس، وكسر الجدار الفاصل بين دول الإغتراب والبلد الأم، عبر الكثير من برامج التواصل النصّي وبرامج التواصل السمعيّة – البصريّة، إلخ. وصارت كل معلومات "الكومبيوتر" بين يديّ حامل الهاتف، أكان مُستلقيًا في سريره أم مُسترخيًا على شاطئ البحر، إلخ. وباتت كل الألعاب الرقميّة وكل برامج التسلية والترفيه وكل الفيديوهات البصريّة والملفّات الموسيقيّة والأغاني، إلخ. موضوعة في خدمة مالك الهاتف، في أيّ وقت وفي أيّ مكان. وخدمات الهواتف الذكيّة الحديثة تشمل معرفة حال الطقس، ودرجة الحرارة، والإرتفاع، وقياس ضغط الجوّ، ومعرفة أحوال الطرقات، وأسعار صرف العملات، وتحويل المقاسات، والإستفادة من خدمة الترجمة الفوريّة للعديد من اللغّات، إضافة إلى الكثير من الخدمات الطبّية للمُستخدم وغيرها الكثير. ومع تطوّر شاشات العرض صارت تجربة العمل والترفيه عبر إستخدام الهاتف الذكي أفضل من أيّ وقت مضى، شأنها شأن عمليّة التصوير الثابت والمتحرك بأعلى التقنيات وأحدث العدسات. ومع تطوّر التطبيقات والبرامج الحديثة، أصبح من المُمكن الإستفادة من خدمات لا تُعدّ ولا تُحصى، تبدأ على سبيل المثال لا الحصر بمسألة طرد البرغش من الغرفة عبر تطبيق سمعي بالكاد تلتقطه أذن الإنسان لكنّه كفيل بطرد كل الحشرات المزعجة، ولا تنتهي عند مسألة إطلاع المُستخدم على أفضل وقت للتوجّه إلى الحمام أثناء مُتابعته لأحد الأفلام، بحيث يختار هذا البرنامج الدقائق الأقلّ تشويقًا في الفيلم لحثّ المُستخدم على التوجّه لقضاء حاجته من دون أن يفوّت أيّ مشاهد قيّمة.
في المُقابل، لا شكّ أنّ إستخدام الهاتف "الذكي" يحمل الكثير من "جينات" النقمة – إذا جاز التعبير، حيث أنّه دمّر الحياة الإجتماعيّة إلى حدّ بعيد، بمعنى أنّه لم يعد لقاء الأصدقاء كما في السابق، ولا إجتماع العائلة، ولا تلاقي أيّ مجموعة ضمن غرفة واحدة. فبعد أن أصبح بإمكان كل شخص التواصل رقميًا من كرسيه مع العالم الخارجي، أكان مع شخص في غرفة أخرى أم في أقاصي الأرض، تراجعت الأحاديث بين الأشخاص المُجتمعين في مكان واحد إلى حد بعيد. أكثر من ذلك، مع التطور التكنولوجي للهواتف الذكيّة بموازاة تطوّر برامج التواصل الإجتماعي الرقمي، أصبحت العلاقات الإجتماعيّة في خبر كان، بحيث صارت التعزية تتمّ برسالة نصّية، والتهنئة بصورة قلب مرفقة بكلمة مبروك. وبدلاً من تشابك الأيدي وتبادل النظرات والتحدّث بشكل مباشر، أصبح الكثير من الأشخاص يتواصلون ببضع أحرف وبعبارات محدودة عبر هواتفهم، بحيث غاب التواصل الإجتماعي الحقيقي لصالح تواصل إجتماعي رقمي هو أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع، والإثبات أنّ بعض الأشخاص الذين يملكون آلاف المعارف على شبكات التواصل الإجتماعي وعلى لوائح برامج هواتفهم الذكيّة بالكاد يجدون من يقف إلى جانبهم في الأزمات وعند الحاجة إلى أصدقاء فعليّين وغير رقميّين أي غير وهميّين لنكون أكثر دقّة. ومع تطوّر الهواتف الذكيّة والتطبيقات الرقميّة، صارت الأخطار على الطرقات أعلى بكثير من السابق، نتيجة الحوادث المروريّة المُتصاعدة تحت عنوان "مصدر إلهاء"، والذي في أغلبيّة الأحيان يكون الهاتف الذكي بين يديّ السائق. وهذه الهواتف المتطوّرة يُمكن أن تتحوّل في لحظات إلى مصدر تشتيت للأفكار وللتسلية وللهو، في ساعات يُفترض أن تكون مخصّصة للعمل المُنتج أو في ساعات يُفترض أن تكون مُخصّصة للدرس المُثمر مثلاً. وهي يُمكن أن تتحوّل أيضًا إلى مصدر للوقوع في عِشرة سيّئة، خاصة من قبل الأطفال والمُراهقين، وكذلك للإنحراف الأخلاقي على مختلف أشكاله، وذلك من داخل جدران المنزل أو غرفة النوم التي يُفترض أن تكون آمنة وتحت مُراقبة الأهل.
في الخلاصة، لا شك أنّ الهواتف الذكيّة التي تُشكّل جزءًا أساسيًا من التطوّر التكنولوجي الهائل الذي تحقّق في العقدين الأخيرين، هي بكل بساطة أداة مُكمّلة لما توصّل إليه الإنسان من إبتكارات تقنيّة ضخمة. ومسألة تقييمها مُرتبطة تمامًا بكيفيّة إستخدامها، بحيث أنّها يُمكن أن تكون نعمة في حال أحسن المُستخدم التعامل مع ما تُقدّمه من خدمات مفيدة، ويُمكن أن تتحوّل إلى نقمة بسهولة في حال وقع المُستخدم أسيرًا لهذه الهواتف ولهذه البرامج، ولم يعد باستطاعته الخروج من وطأة تأثيرها المُباشر على حياته في كل مكان وزمان، أو في حال إستغلّها بشكل غير سليم.
(1)كشفت أحدث الإحصاءات المُتخصّصة أنّ 93 % من المُستهلكين في العالم يتفقدون هاتفهم "الذكي" في غُضون ساعة على الأكثر من إستيقاظهم، وأنّ 76 % على الأقلّ يستخدمون هواتفهم خلال إجتماعات العمل وأوقات الدوام، وأنّ 14 % من حاملي الجيل الحديث من الهواتف يتفقدون هواتفهم أكثر من مئة مرّة خلال اليوم الواحد.