يمكننا أن نرى الوجه الحقيقي لكنّه المظلم لمعظم ما يحصل في بلاد العرب والمسلمين عندما نقرأ نصوصاً غربيّة وأفكاراً قابلة للدحض والمجادلةبأنّ العالم أصبح مكاناً أفضل للعيش بعد حدثين هما: إنهيار الجدار في برلين وتفجير البرجين.

هذا غير دقيق لأنّ كلّ تفجّر للحريّة في كان يحفّز تفجّراً آخر. ولتلك العملية بحدّ ذاتها تأثير تسطيحي عبر المجتمعات، يقوّي الموجودين في الأسفل ويضعف الموجودين في الأعلى... وعندما يظهر معيار إقتصادي أو تكنولوجي إعلامي، صار يتمّ تبنيّه بسرعةٍ أكبر بكثير بعد سقوط الجدار. قد يقبل المرء ببعض إيجابيات السقوط الأوّل لكنه لا يمكن أن يقرّ بالسقوط الثاني الذي يخرّب العالم. نحن أمام سقطتين متناقضتين في الأسباب والنتائج.

نقبل بأنّ سقوط الجدار ، قد عبّد،بالفعل، الطرق الوعرة أمام توسيع الإتحاد الأوروبي الذي قفز الى 28 بلداً بعدما إنضمت إليه كرواتيا في ال2013، بعدما كان 15 بلداً قبل سقوط الاتحاد السوفياتي. ولا نقتنعبأنّ سقوط البرجين وفتح النار العظمى ومن مختلف الجهات الداخلية والخارجية قد نغّص ما تبقّى من حياة العرب والمسلمين. وكأنّ الجدار الأوّل عاد يرتفع في العقلين الروسي والأميركي بعدما وجد الأوّل عظمته مدفوعةً الى الإنهيار السريع وإعلان إفلاسه وتحوّلات مجتمعاته، وأدار الثاني ظهره للعرب تاركاً للعرب الخيبة والمذابح ولإسرائيل الغبطة.

بالإختصار، لا الجدار ولا الإنفجار هزّا العالم . كان لثورة المعلومات الكبرى الدور البارز في تحقيق " النصر الأميركي، بإجهاض الأممية الشيوعية كفكرة إذ لم يبق سوى كونيّة واحدة في الأفق هي أميركية تسيطر على الأسواق العالمية للاتصالات... بما خلق ثقافة جماهيرية لها سلطة بهرت العالم لتقليدها والتطلع الدائم نحوها. لكن، في المقابل، قد يكون من المبكر التكهّن بحجم المتغيّرات وتداعياتها والأزمات التي ينتظرها الإتّحاد الأوروبي بعد، والتي بدأت، بالصدمة التي فاجأت أوروبا التي لم تتمكن من استيعاب تصويت الناخبين البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي بعد إستفتاء 23/6/2016 بما شكّل صدمة هائلة للاقتصاد الدولي وتهديداً كبيراً لمستقبل تكتّل الإتّحاد الأوروبي المهدّد بالتفكّك بعد عمليّة إندماج شبه ناجحة دامت لعقود وهي الآن مثار إشغال العقل الأوروبي.وتجاوز إنهيار البرجين وتداعياتهما على العرب والمسلمين الصدمة والإنهيارات الكبرى التي أصابت العقل الأميركي والعالمي بعد السقوط الحافل بأفكار وألغاز تتجاوز الخيال، والتي كان من نتائجها تفجّر الغرائز الإرهابية وتدفّق الإرهابيين في الشرق والغرب، ليحتلّ الإرهاب عنوان العقد الحالي والعقود المقبلة من تاريخ البشر المعاصر.

كان أول تحقيق للغة العولمة أميركي عبر ملامح السوق الشاملة أو سوق العولمة والأفكار التي هجمت بها الشركات الرأسمالية الكبرى لتشريع فيضانها وفق حدود الدول، وأصبح في الامكان تحقيق الأمبراطورية الكونية التي جاءت نتيجة تضافر جهود العلماء والتقنيين لتفرز...الأسواق الهائلة لرؤوس الأموال، ومنتجات الخدمات اللانهائية التي جعلت من العالم مركزاً واحداً للعرض Market Place، وقادت هذه النظرة إلى ترسيخ حرية التعبير التجارية، وبدت معها الكرة الأرضية في خدمة الاعلان والمال لغة العالم الجديدة أو السوق البشري الشاسع.

وفاق الصراع التصوّر، بين العالمية والخصوصية وبين سلطات الدول والحكّام وأمزجة الشعوب بالمعاني الثقافية والحضارية والقناعات وما يزال. وظهرت الآراء المتعدّدة التي تستبطن مخاطر التفكيك وإعادة التركيب للدول على مختلف المستويات والتي بلغت حدود الفوضى القاتلة التي يصعب على المجتمعات الخروج منها بسهولة.

إنّها الفوضى الشديدة التصويب على الغايات والأهداف المولودة في عقول اللاعبين الجدد العالميين والذين يرسون في بقعهم الوطنية خلف شاشاتهم، ويفكرون على مستوى العالم في تقديم المعلومات المكثفة السهلة وجعلها مناحٍ عصرية للمتغيرات المتلاحقة التي نشهدها في العالم. صحيح أنّ الطابع الإقتصادي والعسكري المستقرّ في رقعة العرب، يساعد في تفسير تلك المتغيّرات، لكنّ الصحيح أيضاً أن وجهتين غير منفصلتين تسهّلان تلك العمليّة الإنتقالية في العالم:

الأوّلى شاهدة على الإنبهار الساحر والممعن بتقنيات التواصل والصور وإغراق الأسواق وإنشغال الثقافات بها وشيوع مبدأ التنافس العالمي بين الشركات العابرة للقارّات والمتجاوزة لكلّ الحدود في إبتكار أجيال من الوسائل الإتّصالية القصيرة الأعمار التي تتبدّل في كلّ عام. تأثّرت بها شعوب العالم، بمن فيهم العرب والمسلمون، بعدما باتت أجهزتها دليلاً على المعاصرة واللحاق بالعصر. وصارت العمليّة التواصليّة والثقافة والأبحاث خاضعة لصفتي الصدفة والمشاعيّة. المشاعية حيث لم يعد يتمكّن العالم من وضع قوانين تضبط فوضى الإختلاط والبث والتفاعليّة في ميادين التبادل المعرفي، والصدفة التي وسّعت ميادين المعرفة من دون أن تزيل ضرورات الإختصاص العلمي الدقيق. فأيّ مقتنٍ أو حاملٍ لهاتفٍ محمول أو أية شاشة تواصلية صاحب قدرات فائقة لا للتعرّف على الدنيا والتواصل بين البشر ولا لتصوير الحاضر والماضي لقطةً لقطة وحسب بل لخلق مشاعر إتّصالية قويّة لديه بأنّه مالك للعالم، كلّ عام بغيّرهاتفه الخلوي وعالمه الخاص الذي يجب أن يتغيّر ويلحق بالعالم، وهكذا يستطيع أن يعبث بمجتمعه ودولته والعالم كلّه.

هذا مشابه لعصر الخراب الجميل الذي وصّفه ت.س. إليوت.

أمّا الوجهة الثانية فتبدو في وقوع دول العالم النامي ومسؤوليه وبشكلٍ لطيف ومشوّق لحشرية البشرأسرى كالعصافير البريئة في قبضة العين العالمية التي ترصد كلّ ما يقال همساً أوكتابةً أو نشراًفوق سطوح العالم، وهي تتأرجح بين تربية الإرهاب والإرهابيين وتذكيتهم وتزويدهم بساحات ثم ملاحقتهم أو النيل منهم وإعمال العقل في عمق التاريخ العربي لإشعالالأحقادٍ المذهبية والحزبية والتلذّذ بمحيطاتها الدموية ومشاهد الخراب.

يتناقش الناس بسذاجة أحياناً من أنّ تلك العين التي ترصد العالم موجودة في سماء وادي السيليكون في الولايات المتّحدة الأميركية، ويعتقدون بأنّ هذه الحريّة المشابهة للفوضى العارمة هي"أفخاخ" شديدة الإنضباط وخاضعة لمنظومات شديدة التعقيد والتطوير وتجديد البرمجة المفصّلة. تفتح هذه المنظومات الأبواب لمفاهيم الحريّات والديمقراطيات وحقوق المرأة والطفل ومعظم أساليب التحديث وإمكانياته من ناحية والمفصّلة في تقارير التنمية الأميركية، لكنها، من ناحية أخرى، تفتح العيون والسجون والقمع والمقابر العشوائية والترويج والتهليل للفضائحالأسطورية لأهل الحكم وإزدواجيتهم وتآمرهم على أوطانهم وشعوبهم،وفلتان الجماعات والفصائل المتشبّثةً بالماضي أمام قوّة التواصل والإنصراف نحو المستقبل.

وكأنّ الجدارلم يسقطفالعالم يعود خائباً الى مناخ حروبه الباردة وأكثر، وكأنّ البرجانأسقطاتوليداًللإرهابيين والمشاعيات في الأرض وبيندول العالم، لكنّ الكثرةالمتدينة منشعوب الشرق والغرب العائدة الى مغاور العقل الحيواني،تقرفص في مطارحها وتتابع سياسات أميركا مع رئيسها ترامبوكأنّها تتمتم:

" ويدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيّدة".

والآتي قد يكون أعظم.