يَومَ الفُرسُ يَتَناوَبونَ على مَطارِحَ الشَرقِ لِيَصِلوا الى حُدودِ الإغريقِ، فَيُصادِموا مُدُنَهم بَعضُها بِبَعضٍ لِلإستيلاءِ عَلَيها أسرَعَ، وَحينَ مُصادَفاتُ الكَيفِيَّاتِ في أزمِنَةِ التَألُّهِ تُكابِرُ في تَعابيرَ القُوَّةِ، كانَتِ الحاضِراتُ-الدوَلُ الُ​لبنان​ِيَّةُ تَتَناغَمُ في إيداعِ العَقلَ أرفَعَ المَراتِبَ لِرِعايَةِ نِتاجِ القِيَمِ.

يَومَها إستَلَبَت قَبائِلُ الفَلِسطو والعِبرانِيِّينَ على حَدٍّ سَواءَ إتِّباعاتِ الظُنونِ، بَعدَما تَسابَقَت عَليَها، وَغَلَّفَتها بِأقنِعَةٍ خَشِيَت مِن تَسمِيَتِها "النِسبِيَّةِ"، وَقِوامُها أنَّ ما هو خَيرٌ وَصَلاحٌ يَعودُ لَها إعتِبارُها سوءاً وَطَلاحاً... وَهي تالياً في حِلٍّ مِنهُ. أخَشِيَت مِن تَسمِيَتِهِ، حَقَّاً؟ بَل وَتَواطَأت على إعتِبارِهِ مِلءَ الحُرِيَّةِ، كَأنَّما الحُرِيَّةُ مَراتِبَ، فيها الدونُ وَفيها المِلءُ. فيها الثَمالَةُ، وَفيها العِبءُ.

قُلّ: الحَقيقَةُ ثَباتُ الوجودِ: فالشَجاعَةُ، والعَدلُ، والنُبلُ قِيَمٌ يَستَحيلُ نَقضُها كَما يَستَحيلُ حَصرُها، فَهِيَ مِنَ الشَهامَةِ الى الغُفرانِ مآلاتُها، وَبَينَ المَحَبَّةِ والخَيبَةِ مُنازَلاتُها وَمَنازِلُها...، وَتَواطؤُ القَذاراتِ لا يُعَدِّلُ في الحَقيقَةِ أمراً، اليومَ وَغَداً وَبَعدَ ألفِ ألفِ عامٍ. مَهما مَهما تَبادَعَ في الإستيلابِ.

وِفي الإستيلابِ تَبادَعَت قَبائِلُ العِبرانِيِّينَ والفَلِسطو في مَواكِبَ إلغاءاتِ الصِدقِ، وَما كانَ الصِدقُ يَوماً في النِفاقِ. أوَلَيسَت أولَوِيَّتُهُ مِن طَهارَةِ نَقائِهِ؟ والطَهارَةُ لَيسَت نَهجاً فَحَسبَ بَل وَتُراثاً لِتَظهيرِ القِيَمِ وَرِفعَتِها.

الحاضِراتُ-الدوَلُ الُلبنانِيَّةُ أعلَتها تِلكَ الطَهارَةُ الفاعِلَةُ مِن مَرتَبَةِ الأرضِ الى عَهدٍ لِلأرضِ مَعَ السَماءِ، الى ميثاقٍ بِهِ تَشهَدُ الأرضُ بِشَعبِها أنَّها لِلسَماءِ، سُكنى إيلَ، خالِقَ العَوالِمَ المُنبَسِطَةِ لِأسمى المَخلوقاتِ: الإنسانِ. أَمِنَ الذُرى الى الذُروَةِ ذاكَ الإعلاءُ؟ هوَذا إعلاءُ العِبادَةِ بالقِيَمِ. فِعلُ شُكرانٍ مِنَ الإنسانِ لِلخالِقِ.

لَكِنَّ تَبادُعَ الإستيلابِ المُناهِضِ لِلقِيَمِ سَلَكَ الخَطَّ المُعاكِسَ: ها قَبائِلُ العِبرانِيِّينِ، في نَهَمِ تيهِهِمِ الدائِمِ، يَستَلِبونَ الخالِقَ، وَلَهُ يَنسُبونَ وَعدَهُ لَهُمِ بِأرضٍ ‒لَيسَت أصلاً لَهُمِ، بَل لِلحاضِراتِ-الدوَلِ الُلبنانِيَّةِ‒، وَبِإلغاءاتِ الصِدقِ أسمَوا ذَلِكَ عَهدَ "إيلَ قانو" مَعَ زُوَيعَمِهِمِ موسى في سيناءَ: "لا تَسجُد لِإلَهٍ آخَرَ، لِأنَّ الرَبَّ إسمُهُ الغَيورُ: إنَّهُ إلَهٌ غَيورٌ"(سِفرُ الخُروجِ 34/14). "إلَهٌ غَيورٌ" إنَّهُ "إيلُ قانو": التَسمِيَةُ هَذِهِ إستيلابٌ لِلعِبارَةِ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ: "إيلُ قونَه" المِعناها: "الإلَهُ المالِكُ الأرضَ"، والمُدَوَّنَةُ في تَبادُعِيَّاتِ إستيلابِهِمِ كَذا: "اللهُ العَليُّ، خالِقُ السَماءِ والأرضِ" (سِفرُ التَكوينِ 14/19). وَمَن قالَهُ كَذَلِكَ؟ مَلِكُ أورشَليمَ الُلبنانِيَّةِ (حاضِرَةُ السَلامِ) وَكاهِنُها الُلبنانِيُّ مَلكيصادَقَ، مَن في البَدءِ أخرَجَ خُبزاً وَخَمراً لِيُبارِكَ إبراهيمَ (سِفرُ التَكوينِ 14/18-19)...

وَكانَ ما كانَ في مَواكِبَ الأزمِنَةِ، مِن نِسبِيَّاتٍ مارِقاتٍ على مَدى العالَمِ، بُعَيدَ إستيلاب ذاكَ الإستيلابَ مِن قَبائِلَ الفَلِسطو.

حَضرَةُ الحَسمِ

أن تُ​قيم​َ الحاضِراتُ-الدوَلُ الُلبنانِيَّةُ، بِعاصِمَتِها الروحِيَّةِ بيبلوسَ، عَهدَ "إيل قونَه"، وَتُرسيهِ قيمَةَ القِيَمِ لِلإنسانِ، حينَ تَصارُعُ الإمبراطورِيَّاتِ بإدِّعاءاتِ حَضاراتٍ مُتَصادِمَةٍ، ذاكَ هو الحَسمُ القاطِعُ الذي رَفَعَتهُ بِوَجهِ تَهافُتِ النِسبِيَّاتِ وَتَداولِ سُلطانِ الطُغيانِ. بِوَجهِ الإنكِسارِ أمامَ تيهانِ القُوَّةِ والرُضوخِ لِهَيَجانِ إستيلابِ الإستيلابِ.

والحَسمُ هُنا حَضرَةُ لبنانَ المُزدَوِجَةِ: لِلإنسانِ السائِرِ قَسراً رأساً على عَقِبَ، والإنسانِ المُمتَلِىءِ بِرَحمَةِ الحَقيقَةِ، سَبيلاً أوحَدَ لِلخَلاصِ.

والحَضرَةُ هُنا جُذورُ لبنانَ الراسِخَةِ: وَحدَها تُقاوِمُ خُبثَ الرياءِ لِأن لِوَحدِها سُلطَةُ النَفاذِ مِنَ الحَقيقَةِ وَإلَيها.

هي حَسمٌ لِحَضرَةٍ أعمَقَ مِمَّا تَظُنُّ هي نَفسُها. فَهِيَ ثِقَةُ اليَقينَ بِلبنانَ الواقِفَ مُحالاً بَينَ الإنسانِيّ المُتَناهِيَ والإلَهيِّ اللاّمُتَناهِيَ، مَهما إشتَدَّت عَلَيهِ تَآمُراتُ السالِبينَ لِإهلاكِهِ وَتَكاثَرَت بِوَجهِهِ لَواحِقُ الأزمِنَةِ بِمَواكِبِها.