الصحافة​ الورقية ليست وحدها في أزمة، ربما تكون أقل مناعة من الاكترونية أو المرئية أو المسموعة، نظراً لتركيبتها المكلفة والمرهقة وغير المبهرة كالمواقع الإلكترونية، أو محطات التلفزة التي تستمد استمرارها، من انتشارها عبر محتوى ترفيهي بصري وبرامج المنوعات والمسلسلات وغيرها، ما يؤمن مصادر دخل كافية.

أزمة الصحافة، بكل بساطة، أزمة محتوى، وبالتالي أزمة صحافيين. هنا قد يكون التعميم ظالماً لكن الواقع المترهل يطغى على الاستثناءات الصحافية المهنية النادرة، إلى درجة يصبح معها الأسف على إغلاق الصحف، أسفاً على زملاء أصبحوا بلا عمل، أكثر منه على خسارة وسيلة إعلامية.

المحتوى الصحافي ببساطة متناهية هو اخباري، كان خبراً أو تحقيقاً أو تقريراً. ويهدف للإخبار بما يفيد تعميم الوعي، للمعرفة أو للمحاسبة، وللمراقبة ولكشف مكامن الفساد والغشّ. ولتحقيق هذه الغاية لا بد من صحافيين يدركون تفاصيل ما يكتبون عنه، وإذا نقلوا خبراً يدققون بمعلوماته، مرة ومرتين ويحيّدون أنفسهم عن أطرافه بكل امانة.

هذه ألف باء الصحافة أين نجدها في إعلام اليوم؟ الجواب لا مكان لها. مؤسساتنا الإعلامية واجهات سياسيّة للتحريض والشتم وللتفخيم والتعظيم والانبطاح أمام رجل الأمن والدين وسلطان المال. مؤسسات كهذه تُشغِل صحافيين كالذين نعرف، والذين نقرأ لهم كل يوم، ونسمع منهم على مدار الساعة. صحافة مصادر لا إسم لها تلقن كتبة لا يفكرون. صحافة تحقيقات تستقي معلوماتها عبر الهاتف، فتعتبر نفسها شاهدت ولمست وحققت. صحافة ابتذال برامج التخريج الحوارية الخاوية. تعودنا أن تكون صحافتنا سيئة، وكذبنا على أنفسنا واعتبرناها عظيمة ومنارة الشرق. ومرة ثانية هناك استثناءات مهنية لكن الواقع المرّ طاغ.

نمارس الحسّ النقدي في صحافتنا ضد الآخر ونسمّيه جرأة. ونفلش الآراء المعلّبة والمعلوكة ونقول أنها دعوة لفتح النقاش. ونفتح ملفّات فساد بالقروش لنغطّي على سرقات بالملايين. ونكتب رأياً ونقول هذا خبراً. هذه صحافة تُهجِر القراء والمشاهدين. ولا يستمر فيها إلا من انعدمت فيه الموهبة، ويتراقص على بكاء الضحايا طمعاً بسبق.

للأسف سقطت المعايير الصحافية، وأسقطت معها أهل المهنة، واكتفى المخلصون منهم بحراسة اللغة، بعدما انسحبت صحفهم من ساحات الدفاع عن حقوق الناس ومحاسبة السلطة. سقطت المعايير الصحافية وأسقطت معها المصداقية ولم تعد تحرك القراء أي فضيحة مهما بلغت فداحتها. لأن القارئ، وهو العامل الكادح أو الموظف أو الحرفي، بات يدرك أن الصحافة حلقة في سلسلة الفساد الملتفة حول عنقه. هي ذراع السياسي الطائفي وحارسة المصارف والكسّارات والصفقات، ومنبر الرشى والابتزاز. من كان يصدق أن مؤسسات صحافيّة عريقة تبتز موظفيها بأن تمنع عنهم رواتبهم، فلا تحرّرها إلا إذا تنازلوا عن تعويضاتهم! أو تمتنع مؤسسة أخرى عن تسديد رواتب، الخبز والدواء وقسط المدرسة، لأكثر من عام، من دون أن يرف جفن في أعين أصحابها المليونية. عن أي صحافة أو محتوى نتحدث؟ صحافة مأزومة وصحافيون مهزومون سلفاً، حتى قبل أن يخوضوا معاركهم. لأن صحافتنا لا مؤسسات فيها. يمتلكها فرد ويديرها فرد وتنتهي بنهايته. ويكون هواها من هواه، تميل معه حيث يميل حسابه المصرفي. لا رأي عام ولا رأي خاص، رأيه فقط المطابق لمن يمثل سياسياً. حتى أن بعض شهداء الصحافة، باستثناء المراسلين الميدانيين الذي قضوا في ساحات الحروب، لم يقضوا بسبب كشفهم لفضيحة أو لمتابعتهم قضية، بل قتلوا لأسباب سياسية. أصحاب صحف ومجلات ذهبوا ضحية لغة الكراهية والتحريض التي اسهموا فيها، لا الصحافة. علماً أن لمهنة الصحافة شرف أنها المهنة الوحيدة التي يصدر نهاية كل عام سجل بعدد شهدائها الذين سقطوا دفاعاً عن الكلمة. ومرة ثالثة نقول هناك استثناءات لكن السائد غير ذلك.

ومقابل ندرة الصحافيين المهنيين نجد وفرة في أصحاب الثروات الخيالية بين أصحاب الصحف. أصبحوا أسرى ثرواتهم ومراكمتها، لا أسرى هاجس إصدار صحافة جيدة تليق بالقراء ولأهل القلم. الصحافة لا تغيب ولا تموت، لا تزال السجل اليومي للتاريخ، وهي الوثيقة والاعلان الجميل المفيد. ما يغيب هو اللاصحافة. ومع احتضار عدد من المؤسسات الإعلامية، ربما هناك فرصة لتستعيد الصحافة دوراً فقدته وتصبح من جديد سلطة رابعة تراقب السياسات العامة، وتحاسب، وتقود رأيا عاماً اصلاحياً. الآن نحن بأمس الحاجة إلى صحافة جيدة ترتقي إلى المعايير المهنية والاخلاقية الصحيحة لتواكب قضايانا ولنأتمنها على مستقبلنا، من النفط الموعود إلى قانون الانتخاب، وباقي الملفات العالقة. الشعب يريد تغيير الصحافة قولاً وفعلاً.