هل أعاق الدين الحضارة؟

قطعاً كلاّ.

لماذا؟

لنبحث عن الجواب في الغربلا في الشرق.

هناك إنعدام في التمييز بين المدنيّة والثقافة في الفهم الغربي، لأنّ الفصل بين الإتّجاهات العلمية والخلقية والدينية لم يكن وارداً ولم يحل إطلاقاً دون التقدّم والإبتكار. لقد برهن برغسون بأنّ الدين والآلية متكاملان وإختصر كتابه القيّم "ينبوعا الأخلاق والدين" بالخلاصة أنّ المؤمنين كانوا من أبرع رجال الأعمال؟

نشأت الحضارة الآليّة عندهم في بيئةٍ مؤمنة، لأنّ أصحاب الحياة الروحيّة أرادوا الإتّصال بالله خالقهموراعيهم الأعلى، وصار همّهم منصبّاً على إيجاد أدوات ووسائل تحسّن الحياةالمعاشة وقساوة العلاقات البشرية. وكان يفترض هذا الفهم التمجيد بالصوت العالي والسلوك الواضح النظيفلقيم التسامح والعدالة والمحبّة بهدف تقدّم الإنسانيّة توخّياً لتحقيق المجتمع المفتوح La sociétéouverte.

وأكثرمن ذلك، كانت حجج المؤمنين تقوى في أزمنةٍ راحت فيه الكنيسة بالتراجع أمام إطلاق قوّة العقل، وإنطلق هؤلاء في بسط فلسفة التزاوج بين المادة والروح ودفعهما الى المصالحةالعارمة. رأوا الزخم الروحي وراء الآلة وروحها، تخليصاً للإنسان الذي بدا غارباً من وجه خالقه وهو لا يتعدّى قوّة فراشة. وقالوا بأنّ الآلة لا يجب أن تطوّق الإنسان وتحاصره.وحتّى لا يقع فريسة لإغراءات الإنتاج والجشع والقهر، إعتمدوا التفرّغ الى الله بهدف المزيد من الإنتاج. وعلى الرغم من أنّ "المنطق الإيماني" قاسى كثيراً فهولم يتمكّن من الوقوف في وجه دورة العقل ، بل كان له شأن في خلق الفكر المتردّد الذي ولّد ردّات الفعل الدينية، لكنّه لم يستطع الوقوف في وجه الحركة الصناعيّة التي كانت في أساس الفكرة القوميّة.

راحوا ينقّبون عن إنسان ما قبل الثورة الصناعيّة، معتبرين أنّ الزراعة والطبيعة والصناعات الخفيفة كانت بتصرّف رجال الدين أساساً ، وقالوا بأنّ الحضارة ا القيصرية مثلاً قد بنيت على إتّصالٍ وثيق بالأديرة.

وعلى الرغم من الوجه الشيطاني المظلم والطاغي على تفتّق العقول، أدّى الزخم الروحي في تفسير التاريخ الى الإقرار النهائي بأنّ الكون إنتاج الله يشرف عليه لأنّ الإقتناع بالعناية الإلهيّة موقف إيماني محض غير قابل للنقاش، وحتّى علماء اللاهوت لميعلّلوا نشأة الحضارة وتطوّرها بالعناية الإلهية، لأنّ وجوهاً مظلمة وقاسية كانتتتركها الحضارات مثل الحروب ،لكنّهم قالوا بأنّ الأحداث التاريخيّة ستنصبّ يوماً وحتماُ في ملكوت الله.

كان الموت هو السرّ المخيف الأكبر. ولهذا إعتبر تيار دو شاردان أنّ للتاريخ معنى عظيم حيث لا يذهب كلّ شيءٍ تلقائيّاً الى الله، لكنّ هناك أشياء تنحلّ، ومع ذلك يبقى الله هو التاريخ يعيد تركيبه وينقيّه ويصبّه في ملكوته، مع أنّ الطبيعة قد تنقضّعلى التاريخ مثل الصاعقة فتمحوه وتمحو معهالكائنات.

هذا البعد الروحي، الذي إلتزم به رجال الدين، أو ما يمكن فهمه بالتفسيرات الميتافيزيقيّة لتفجّر العقل، لم يظهر في مواقفهم سوى في التخويف من الله وإثارة الفلسفة التباعدية بين اللذّة والواقع مع أنّ المؤمن لا يخاف الله. ماذا يعني القول: ألا تخاف الله؟ الله لا يخيف أبداً. الإنسان هو الذي يخيف عندما تسكنه شروره ويتجاوز حدوده.

وأقرّت الحضارة الأوروبية المسماة، في العصر الوسيط، باسم الحضارة المسيحية، بأنّهلا يمكن تسميتها في العصر الحديث بذلك أبداً؛ لأنَّ السمة البارزة فيها هي التمرد الفاشلعلى الإيمان.فالتوجّه الروحاني لم يخفّ زخمه، وصرنا نشهد في عواصم الغرب مظاهر إرتداد غريبة نحو الطبيعة والتقليعات والصرعات إجتاحت أجيال الشباب على مستويين:

1- الأوّل يخرج الحضارات من رخائها، فيظهرها في مظاهرالإقتداءبالقبائل البدائية عبر ثقافة وشم الأجساد وإطلاق اللحى والشعر وحفر الندوب فوق صفحات الوجوه وتطويق الأعناق بالقلاّدات العريضة والإقبال على الثياب الجلدية التي تقرّب أفراد هذه المجموعات من الحيوانات، لا في الشكل أحياناً بل بما يتخطّاه نحو السلوك وطرائق العيش في المخيمات النائيةالتي تمجّد العنف العنف. ونشهد اليوم مظاهر غريبة من هذا النوع عند إقبال أبناء الميسورين على إرتداء الثياب الممزّقة بصفتها آخر صرعات الموضة تيمّناً بالفقراء والنازحين والمتسولين بثيابهم الرثّة.

أليست سراويل الجينزالتيتغطّي المشاهير هي فكرة إقترحها أساساً مهندس فرنسي لعمّال مناجم البحث عن الذهب بعدما إنتبه الى أنّ ثيابهم سريعة الإهتراء، فعمد الى إلباسهم أقمشة الخيم السميكة بدافع التوفير والجشع. حول هذا المظهر الأوّل، نقرأ دراسات تعتبرأنّ وراءه عقولاً تخريبيّة همّها تفتيت الحضارات والمغالاة بإنتاجالكوارث وتحطيم الآخرين.

2–نجد لهذه الأشكال البرّاقة اليوم مظاهر يتمّ التركيز عليها في المنظّمات الإرهابيّة التي تغطّي العالم باللباس والسلوك ، محاولين العودة بتقزيم الحضارةبمظاهر شكليّة لا علاقة لها بجوهر الأديان.اللافت في هذه الظواهر المتنوّعة والمتعدّدة الأسباب والأهداف، أنّها عبء على المؤمنين الذين يسيرون في قلب المعاصرة،وتتقصّد إخراجهم من الحاضر نحو الماضي في قشوره اليابسة لا في جوهره وقيمه. هذه مظاهر يفترض ألاّ تخدعنا على الإطلاق، بل يجب فضحها والكشف عن مطابخها السياسية والإعلامية.

ليس الأمر صعباً. إنّنانصادفطوفاناً منالوثائق والصور التي تربط هذه المظاهر بإيديولوجيات خطيرة غربيّةمستوردة دموية بإعتبار الإرهابيين في عقل الغرب، وهم يقدّمون أنفسهم أو يقدّمونهم مجتمعاً تاريخيّاً يعود الى النقطة الأولى في تواصلهم أو تمثيلهم للخالق، محتفظين بماضيهم الثقافي وطقوسهم المتشتتة في البطش، فإنّهم، في الوقت نفسه يطمحون الى تفريغ الأديان الأخرى من قيمها عبرتشويهها وتدميرها وطمسها ومحو تاريخها حفاظاً على نقاء تاريخهم المزعوم القائل بأنّهم "شعب الله المختار".

هذا مؤشّر على إنحطاط في الحضارة العالميّة وتخلّف فظيع.

لماذا؟

لأنّ الحضارة هي صفوةٍ العطاء والإنتاج وتراكمات الإرث الثقافي والمعرفي تتزوّد به ومنه البشريّة وهي رهينة التلاقح و"المثاقفة"Acculturation بين شعوب العالم حسبما أشار دوميرابو رائد مصطلح الحضارة بمعناها الدقيق إذ جمع بينها وبين الثقافة مقابل القطع بينهما في الفكر الإلماني أوالتوفيق بينهما في الفكر الأنكلوساكسوني، وهو الميدان الذي أثار المفكّر اليهودي النمساوي الأصل سيغموند فرويد، عندما نشر كتابه Angoissedans la civilisation أي "قلق في الحضارة" بعد راقبتشتّت اليهود.

ينعكس هذا القلق اليهودي عبر مشاهد الفرز الديمغرافي والإرهاب والقلق في أرض العرببما يفرض علينا إعادة التمييزبين الحضارة والثقافة، لأنّ كلّ مدنيّة ثقافة وليس كلّ ثقافة مدنيّة.