رغم كل المحاولات والتشكيك باجتماع استانة ونجاحه، فقد نجح الاجتماع وبعد يومين من انتهاء فعالياته وصدور إعلانه (اعلان استانة) في فرض ايقاعه على المشهد الدولي وقاد المعنيين الى مراجعة مواقفهم او المسارعة الى ما يحفظ مصالحهم على ضوء المتغيرات التي فرضها "اعلان استانة" الذي صدر عن الثلاثية الداعية والراعية للاجتماع ووافقت عليه الحكومة السورية التي وجدت فيه نجاحا لها فيما ابتغت، كما وافق عليه الوفد الممثل للمسلحين بعد تردد وتحفظ. وبعد هذا تسارعت المواقف الدولية والعمليات الميدانية بشكل يوحي بان مشهدا جديدا حول سورية بات قيد التشكل لرسم الصورة النهائية للحل. وفي هذا السياق نتوقف عند ما يلي:

أولا: مراجعة الموقف الأميركي.

بعد انتهاء اجتماع استانة واعلان بيانها أعلن ترامب الذي لم يكن قد أمضى يعد أسبوعا في البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة أعلن ثلاثة مواقف ذ ات صلة بسورية، يتعلق الاول منها بنيته انشاء مناطق امنة فيها وتكليف وزراتي الدفاع والخارجية بأعداد دراسة وخطة تنفيذية لذلك والثاني قرار بمحاربة داعش وتكليف الدفاع بوضع خطة تنفيذية لاجتثاثها، ما يطرح لسؤال حول السلوك الأميركي العسكري المستقبلي في سورية. وهل ان ترامب سيمضي قدما في العمل العسكري التوسع في سورية تحت ذريعة قتال داعش.

في وعوده الانتخابية قال ترامب ان لا شان له بمحاربة النظم السياسية وفرض رئيس هنا واسقاط نظام هناك، وان جل همه يتركز على محاربة الإرهاب حفظا للأمن القومي الأميركي. ثم جاءت قراراته المنوه عنها أعلاه في سياق متصل مع جملة قرارات تتصل بالأمن القومي الأميركي منها جدار العزل عن المكسيك وقرار منع رعايا 7 دول إسلامية من دخول اميركا لفترة أولى مدتها 90يوما. ثم انه وخلال اتصاله الهاتفي الأول مع بوتين الرئيس الروسي ابدى استعدادا لعمل عسكري مشترك مع روسيا لمحاربة الإرهاب.

كل هذه الأمور تدفعنا للقول ان ترامب يبدو حتى اللحظة جادا في السير قدما بتنفد وعوده في التحول الى محاربة الإرهاب و عدم الاشتغال بالنظم السياسية للدول ، خاصة و اننا نعتقد بان الذين سيعدون له المقترحات و الخطط لإقامة المناطق الامنة في سورية او لقتال داعش ، هم من العسكريين و السياسيين الذين خبروا عن كثب تعقيدات الميدان السوري وموازين القوى الحالية فيه ويعرفون جيدا مخاطر التدخل العسكري المباشر دون التنسيق مع الحكومة السورية .فالمنطقة الامنة لا يتنشأ بمجرد قرار او امر على ورق بل هي بحاجة الى قوة عسكرية مركبة و فاعلة لأنشائها و قوة عسكرية دائمة لحمايتها مع ما يحتمل ذلك من اصطدام مع القوى العاملة في الميدان السوري ان لم يتم التنسيق معها .

وذلك فأننا نرى ان فكرة المنطقة الامنة التي يطرحها ترامب مسالة يشوبها الكثير من الغموض والتعقيدات وأنها غير قابلة للتنفيذ في الظروف القائمة الا إذا كانت اميركا تريد ان توسع قواعدها العسكرية الخمسة التي اقامتها مؤخرا في المنطقة الي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية التي تراعاها، او في الجيب الذي تحتله تركيا، وتريد بالتالي امتلاك ورقة استراتيجية تناور بها عند طرح الحل السيسي للازمة السورية.

اما عن قتال داعش والاستعداد للعمل المشترك مع روسيا، فأننا ننشك بهذا الامر ولا نرى انه بالإمكان الاعتقاد ان اميركا ستتخلى عن ورقة داعش دفعة واحدة وتنخرط جديا في معسكر قتال الإرهاب المتشكل اليوم من محور المقاومة ومعهم روسيا ولا نستطيع ان نهمل ما أعلنه الحشد الشعبي العراقي عن قيام الجيش الأميركي في العراق منذ يومين (أي خلال الأسبوع الأول من حكم ترامب) بتزويد داعش بالأسلحة والاليات العسكرية.

و لكل هذا نرى ان مواقف ترامب و قراراته و توجيهاته الى ادارته تأتي في سياق مراجعة الموقف الأميركي من الازمة السورية اثر فشل المخطط الأميركي فيها ، مراجعة تؤول الى تحديد تموضع أميركي جديد ذو خصوصية تمكن اميركا أولا من التلفت من خسارتها الاستراتيجية بعد ست سنوات من العدوان ، ثم تمكنها ثانيا من تثبيت موقعها في المنظومة الدولية الراعية للحل السوري خاصة و ان مجريات اجتماع استانة وجهت اليها رسالة قاسية لم تعهدها منذ ربع قرن مفادها ان العالم قادر على البحث عن حلول لمشاكله حتى و لو تخلفت اميركا عن المشاركة.

ثانيا: مراجعة خريطة الانتشار والعلاقات البينية للقوى الإرهابية في سورية.

ان اهم ما تمخض عنه اجتماع استانة عسكريا هو التزام بفرز القوى المسلحة المناهضة للحكومة السورية بين جماعات تراجعت عن العمل المسلح والتزمت بالتوقف عن اعمال العنف وارتضت بالحل السياسي بعد ان وافقت على قرار وقف العمليات القتالية، وجماعات صنفت دوليا إرهابية رفضت العمل السياسي وأصرت على اعمال العنف والاجرام. والتزم الجميع في استانة بعزل هذه القوى وقتالها حتى اجتثاث الإرهاب الذي تمارسه.

ان هذه النتيجة أدت مباشرة الى انفجار بين المسلحين في سورية حيث سعت جماعات فئة القبول بالحل السياسي الى الابتعاد عن قوى الفئة الثانية الإرهابية حتى لا تتضرر عندما تتعرض الأخرى لعمليات قتالية، كما ان جماعات الفئة الثانية واهمها تنظيم جبهة النصرة الإرهابي الذي غير اسمه الى فتح الشام رأى في تصرف جماعات الفئة الأولى غدرا وخيانة فسارع الى تصفيتها قدر ما يستطيع وأسقط سياسية التنسيق والعلاقات التحالفية معها واعتمد سياسة الضم او الافناء والاجتثاث.

هذا التناقض أدى وخلال اقل من يومين من انتهاء اجتماع استانة الى معارك شديدة الضراوة بين جبهة النصرة والاخرين ما أدى الى تغيير خريطة القوى واحجامها وفعاليتها حيث تقدمت جبهة النصرة على حساب الاخرين ثم طورت نجاحها الى تشكيل منظومة جديدة تحت اسم "هيئة فتح الشام" التي تشكلت من "جبهة فتح الشام"، و"حركة نورالدين زنكي"، و"لواء الحق"، و"جبهة أنصار الدين"، و"جيش السنة" لتكون جيش الإرهاب الموحد الجديد في مواجهة الدولة السورية والقوى الأخرى التي التزمت بقتال الإرهاب. وتبقى داعش طبعا مستقلة عن الهيئة الجديدة لكن النتيجة التي افضى اليه المشهد ان الأساسيين من الإرهابيين باتو يعملون في سورية تحت عنوانين "داعش" و "هشت"(هيئة تحرير الشام). وسيكون فصل لمناطقهم بساعد على التصدي لهم لاجتثاثه.

وهنا سيطرح سؤال حول الهيئة الجديدة وحول مرجعتها الإقليمية، فهل ستشرف تركيا ام السعودية على الهيئة ثم كيف ستتعامل تركيا معها في أي من الحالين خاصة وان تخليها عن جبهة النصرة يفقدها الكثير من الأوراق، التفاوضية لتحقيق مكاسب لها عند التباحث في الحل. أسئلة لا بد من ان تكون حاضرة في الذهن لاختيار وجهة التعامل مع تركيا في هذه المرحلة الدقيقة، خاصة وأننا حتى اللحظة لا نثق بالالتزام التركي على كل الصعد.

ان إعادة التموضع هذا لم تقتصر على اميركا و الفصائل الإرهابية المسلحة بل انسحب أيضا و ان بمستويات مختلفة على اروبا التي همشت في الآونة الأخيرة و على العرب و الجامعة العربية التي تم تجاوزهم كليا حتى انعدم وزنهم على الساحة الدولية ، و لهذا بدأت الأصوات الخافتة تعلو بحثا عن مخارج من العزلة و التهميش ، و هنا يطرح سؤال اخر هل يقتدي جميع من همشوا ببريطانيا و يعترفون بانهم اخطأوا بحق سورية و انهم بصدد مراجعة المواقف و العودة الى دمشق للعمل مع حكومتها ضد الإرهاب و ترك السياسة السورية الداخلية لأهلها ؟

ان سورية التي شكل جيشها وقواها الشعبية العاملة تحت قيادتها الحكيمة نواة معسكر الدفاع عن سورية والمنطقة، النواة الصلبة التي لولاها لما تشكل هذه المعسكر ولما استطاع محور المقاومة وبعده روسيا من تقديم المساعدة وبذل الجهود في سياق الحرب الدفاعية القائمة، ان سورية المتمسكة بتحالفاتها والراسخة على ثوابتها ماضية قدما في المواجهة فمن راجع مواقفه وتوقف عن العدوان سيجد من يشجعه على يقظة الضمير ومن أصر على العدوان سيجد ما لاقاه من مواجهة كما حث خلال السنوات الست لماضية.