يواصل العميد الركن المتقاعد ​جورج نادر​ جولاته على قرى وبلدات محافظة عكار مستطلعاً آراء الناس، واقفاً على همومهم ومشاكلهم، وهو الذي عاش أوجاع أبناء منطقته وحرمانهم وتهميشهم، وقد فوجىء بالمستوى المؤلم من الحرمان المتمادي لمنطقة عكار: "بعرف أنو الناس بعكار محرومين، بس ما كنت مفتكر أنو في ناس هلقدّ فقرا ومعتّرين".. تصوّروا أن عائلة مؤلفة من 8 اشخاص تعيش من مردود مبيع حليب بقرة واحدة يرعاها رب العائلة ويقوم بتحضيره وبيعه مع الزوجة والأولاد...، فإذا مرضت أو نَفَقَت هذه البقرة فإن عائلة بكاملها تموت جوعاً ...، فلا وظائف ولا مشاريع إنتاجية، ولا إمكانية المطالبة بكوتا وظيفية لأبناء منطقة يبلغ عدد ناخبيها 280 ألفا، ولا يبدو في الأفق إهتماماً بإنماء هذه المنطقة ذات الطبيعة الخلابة، وسكانها ذات الطيبة والوداد.

الناس في عكار ملّوا الوعود الكاذبة التي يغدقها المرشحون في مواسم الإنتخابات، وزياراتهم هي ذاتها من دورات عدة: "ما بيفيقوا علينا ألا بموسم الإنتخابات... بيجوا وبيروحوا بيوعدونا وبيكذبوا علينا، بس هالمرّا... منفرجيهن..." على حد قول أحد المواطنين في بلدة ببنين، بلدة الشهداء والعسكريين.

العكاريون ليسوا غنماً، وإن إستغل البعض الفقر والحرمان فأغدق المال السياسي، معتبرين أن الناس يساقون قطعاناً، فهذه المرّة ليست كسابقاتها، سوف يدركون جيداً من نحن ومن سننتخب، والقول لأحد مواطني بلدة مشحا الذين يعدون بأن صناديق الإقتراع ستكون زلزالاً...

عند لقاء العميد نادر مع المواطنين يفاجأون بصراحته وصدقه: "ما حدا حكي معنا بهالصراحة من قبل، العميد متواضع وقريب للقلب وبيحكي وجعنا، ونحنا بدنا أشخاص من هالنوع..." قالها أحد المخاتير، وفي كل لقاء يكون أغلب الحاضرين عسكريون متقاعدون أو اهاليهم أو من ذوي عسكريي الخدمة الفعلية أو أهالي الشهداء..." أنت وحدك بتمثلنا يا عميد... أنت بي العسكر والشهدا، ونحنا معك نحنا وولادنا وعيالنا" هكذا بادرته والدة أحد الشهداء من الفوج المجوقل والتي إستشهد إبنها في نهر البارد خلال فترة قيادة العميد نادر للفوج، وهنا تدمع عيني العميد الذي عُرف بأبوّته للعسكريين وهم يبادلونه المحبة والتقدير...

"انشالله نكون ع قد نيّتك يا خالتي... وعند حسن ظنّ الناس فينا...".

الناس البسطاء، غير المعقّدين والمندفعين في خدمة وطنهم من خلال إنخراطهم في صفوف الجيش الوطني، هل هكذا تكافأهم الحكومات؟

في دراسة أعدّها أحد الأكاديميين الناشطين عن توزيع وظائف الدولة بفئاتها كافة تبيّن أن عدد موظفي الفئة الأولى من العكاريين في إدارات الدولة شبه معدوم (2% فقط مع العلم أن عدد الناخبين العكاريين يبلغ حوالي 10% من إجمالي الناخبين في لبنان)، والأخطر أنه معدوم في الفئة الثانية، فإذا توافرت النيات في إنصاف ابناء عكار من وظائف الفئة الأولى، فإن ذلك يبدو متعذّراً كونه لا يوجد في عكار موظفين من الفئة الثانية ليصار إلى ترفيعهم وتعيينهم في الفئة الأولى...

هذا غيض من فيض الحرمان والتهميش، ويروي احد المواطنين من بلدة حلبا عن نظير له من بلدته فقير الحال، أدخل إبنه المريض للمعالجة في إحدى مستشفيات المنطقة، ونظراً لعدم تمكّنه من دفع نفقات العلاج فقد عمد معارفه واقربائه إلى جمع مبلغ من المال لدفع فاتورة علاج ولده، أي بالعامية: "عملولو لمّي"، وعند تسديد الحساب بقي للمستشفى بذمته مبلغ 250 ألف ليرة، فرفض المحاسب السماح بإخراج الولد لحين دفع المبلغ المتبقي... فعمد الوالد الفقير إلى الصراخ، ودخل صدفة أحد نواب المنطقة فسأل الوالد الغاضب: "ليش عم تصرّخ"؟، فأجابه: "ولو يا جماعة، كلها 250 ألف ليرة، ما نحنا انتخبناك يا سعادة النايب..." فأجابه النائب بهزء:

"أنت ما تفتح تمك... قابض 250 دولار حق صوتك..."

نعم ، دُفع مبلغ 250 دولار أميركي في ​الإنتخابات النيابية​ التي جرت في العام 2009 لهذا المواطن المعدوم مادياً، بإستغلال فاضح لوضعه المادي المذري، وقد ذكره النائب "المنتخب" بالرشوة وتحقير كرامته أمام الناس، بأنه "قد قبض ثمن صوته، وبالتالي لا حقّ له عند نائب الأمّة الذي عيّره بأنه أعطاه المال رشوة مستغلاً فقره وعوزته...".

أحد زعماء العائلات في القليعات توجّه بالقول إلى العميد نادر: "شوف يا عميد، نحنا مش غنم، نحنا ناس عنا كرامتنا وبكرا منفرجيهن شو بدو يصير، رح يتفاجأوا باللي رح يشوفوه..."، نحن لسنا مكبّاً للنفايات، فخلال أزمة القُمامة في صيف 2015، عُرض على منطقة عكار مبلغ 150 مليون دولار للقبول بجعل قرية سرار مكبّاً لكل نفايات لبنان، فرفض العكاريون العرض المُذلّ، لأن ما تستحقّه عكار أكثر بكثير من مبلغ تقرّر صرفه كرشوة للناس للقبول بجعل البلدة المذكورة مكبّاً للنفايات، فـ"عكار منّا مزبلة"، الشعار الذي أطلقته حملة الحراك الشعبي في عكار، والتي نجحت بمساعدة الأهالي، بإلغاء مشروع جعلها "مزبلةً" وهي التي أعطت خيرة شبابها للوطن، للخدمة في صفوف جيشها حيث أن في كل منزل عكاري عسكري أو أكثر، وفي كل قرية أو بلدة عكارية، كوكبة من شهداء الجيش سقطوا في ساحات الشرف، أهكذا تُكافأ المنطقة، خزان الجيش وبلاد الأرز والشوح والسنديان؟.

لاحظت على وجه العميد نادر إمارات الغضب عندما روى له احد مواطني قرية النورا الحدودية عن حادثة إطلاق نار جرت من قبل الجيش السوري على المناطق الحدودية العام 2012، فقد نفقت بقرة تعود لهذا المواطن الذي يعيل عائلته من مردود حليبها، وقد جاءه مسؤولون من الهيئة العليا للإغاثة برفقة أحد نواب المنطقة لإحصاء الأضرار، وتقدّم بطلب للتعويض كونه لا يملك من مورد للرزق إلا تلك البقرة النافقة، وبعد شهر قصد مركز الهيئة في بيروت حيث أعلمه المسؤول أن المساعدة المقررة له والبالغة 5 ملايين ليرة قد اصبحت في مركز المحافظة، ولما قصد مكتب الهيئة تبيّن له أن لا وجود لإسمه في قائمة المساعدات... وعند المراجعة قيل له: "روح شوف مين وعدك وخود حقك منو"...

معقول حدا في ضمير بيسرق شخص فقير متل هيدا؟ بيعيش هوي وعيلتو من هالبقرة" هل هناك من خسّة ودناءة تعادل ما فعله ذاك المسؤول في سرقة مال الفقير المعدوم؟ قالها العميد غاضباً وعلى وجهه علامات التأثر والحزن.

لكننا، والقول لأحد المخاتير، لن نرضى أن نكون ثانيةً قطيعاً يجروننا طائفياً ويعرضون عن واجباتهم تجاهنا، نحن سنقترع للذي يحسّ بأوجاعنا ويشعر بأوضاعنا، "نحنا بدنا مسؤول منا وفينا"...