نتأمَّل في هذا الأحد المبارك بحدث القيامة التاريخي الذي جعلنا نلقي السلام على بعضنا البعض بكلمة البشارة: المسيح قام حقًّا قام، ونقف عند ما يلي:

1 – الفصح(مرقس 16، 1-8) عيد، والعيد لا يذهب الى غير رجعة، لأنَّه يعاد ما دامت الأرض تدور والناس يعيشون، غير أنَّ الفصح عيد يربط السماء بالأرض، يربط الروح بالمادَّة، يربط الزمان بالأبديَّة اللامحدودة، إنَّه عيد من السماء تفرح فيه الأرض وسكَّانها.

الفصح عيد ربيعيّ، فيه تبدو الحياة وكأنَّها تتجدَّد وتولد من تحت تراب الظلمة الباردة، عيد تشترك بفرحته زهرة من بين الصخور وعصفور من على الغصن ووليد جديد من كنف أمِّه يتغذَّى للحياة. الفصح عطاء وخلق وولادة جديدة. هو العيد الوحيد الذي أوصى به المعلِّم حين قال: اصنعوا هذا لذكري حتى مجيئي.

2 – الفصح طريق، ألم يقل المسيح أنا الطريق والحياة والحق؟ ألم يُرِد بقوله هذا أن يدعونا لنسير على خطاه لنصل الى مجده فنجلس حيث يكون. بلى الفصح طريق أوَّله فرحة الشعانين وقلبه عذابات الجمعة العظيمة وآخره الظفر والحياة. الفصح صورة أرادها المسيح لحياتنا مثالاً فنفهم أنَّنا إذا سلكنا هذه المسالك، وإن وعرة، لا بدَّ أن نفرح ببهجة القيامة ونسعد باللقاء الذي حُرِمنا منه يوم طُرِدنا مع آدم من الجنَّة وسترنا وجهنا بأيدينا.

3 – الفصح رجاء، ومن ميزات الرجاء أنَّه لا بدَّ أن يتحقَّق. أجل الفصح رجاؤنا وركيزة إيماننا، لولاه لبقينا غارقين في شكٍ قتَّال وضياعٍ مميت. تقولون، أو يقول كثيرون منَّا، «مَنْ مِنَ الناس راح وَرَجِعَ ليخبرنا ماذا هناك». ويأتي الفصح ليردَّ على جميع المتسائلين، المسيح يسوع بن مريم من ناصرة الجليل راح ورجع ليخبرنا ماذا هناك. مات، وظل ميتاً حتى تأكَّد الجميع أنَّه مات، ثم قام وتردَّد على رُسُله وعلى غيرهم من النساء والرجال حتى أنَّه أكل معهم ونادى توما الرسول ليلمس جراحه. كلُّ ذلك ليقول لنا «أنا هو» قمتُ من الموت لأخبركم ماذا هناك. لأقول لكم هذه نهايتكم أنتم أيضًا فلا تخافوا. أنا الطريق وكلامي الحقُّ ورفقتي الحياة.

4 – الفصح انتقال وعبور، ابتداءً بالمسيح ووصولاً لنا. انتقال من نظام حياة الى نظام آخر وعبور من طريقة كون الى طريقة أخرى، أمَّا الوسيلة التي تؤمِّن هذا العبور وذاك الانتقال فهي الموت وما عداه باطل. مات المسيح جسداً كثيفاً فيه ثقل ناس الأرض، فقام جسداً روحانيًّا فيه شفافيَّة وخفَّة ناس السماء. هذا العبور ممَّا هو للأرض الى ما هو للسماء هو الفصح، هو التحرّر من قيود الحياة بالمادَّة الى روحنة المادَّة وتحريرها من كثافة الكون الملموس. الفصح هو ذاك الحدث الذي ينزل فيه ما هو روحاني عالمَ المادَّة، فيرفع ما هو مادِّي الى عالم الروح ويدخله الحياة الأبديَّة.

كما المسيح كذلك نحن سوف يكون لنا ذاك العبور، لأنَّ المسيح بشخصه أهَّل الطبع البشري كلَّه لمثل هذا العبور من المادَّة الى الروح.

5 – الفصح مدعاة شكر وفسحة صلاة، وكيف لا يكون مدعاة شكر حين يعرف الإنسان أنَّه بالفصح يدخل البقاء الأبدي، فيصبح نوعاً من إله. يشارك الله في خلوده، أولم تكن هذه الأمنية هي رغبة حواء وآدم حين أكلا من ثمرة الجنَّة؟ ألم يحلما بأن يصيرا آلهة؟ ويأتي الفصح ليقول للإنسان: رَغبْتَ يا بُنيَّ بأن تصير إلهًا بقوَّتك وتصميمك، ففشلت أنت وبنوك من بعدك، وها أنا اليوم أحقِّق كلَّ رغبتك وأجعلك تشاركني أنا الله، ببقائي، ولو كلَّفني هذا الأمر موت ابني بالعذاب.

حين يعرف الإنسان أنَّ الفصح انحناءة الله ليرفعه من موته الى الحياة، ليصالحه ويعيده الى الحضن الأبوي، أفلا يَعْتَبِر ويقف شاكراً مصليًّا.

6 – الفصح شموليَّة واتساع، يصير معهما الكون صغيراً. كان فصح اليهود حَمَلاً ولا يجوز أن يأكل منه سوى اليهود، وكل من كان غير يهودي يُبْعَد. أمَّا فصح المسيح فهو دعوة للجميع، هو باب نعمة مفتوح لا يرفض طارقاً ولا يردُّ أحداً خائباً. هو للأمم من كلِّ جنس وعرق ولون. فصح المسيح تخطَّى القوميَّة والعرقيَّة والعنصريَّة ليكون فصح الطبع البشري بالذات، الذي يجمع كلَّ المنتسبين لآدم، كلَّ الذين لحقتهم الخطيئة والموت بالإنسان الأوَّل، هم مدعوُّون الى الخلاص والحياة بفصح آدم الثاني أي المسيح.

7 – الفصح تحقيق وعد وختم عهد وانتظار مجيء. تحقيق وعد الله لآدم بالذي سيسحق رأس الأفعى، وختم عهد جديد بدم الحمل الجديد المسيح ابن الله، وانتظار للمجيء الثاني. الفصح الذي نحتفل به كلَّ أحدٍ، إنَّما نصنعه لذكر الرب يسوع حتى مجيئه.

كان فصح اليهود بعد الخروج استحضاراً لحدث سابق، وإن بدا الكلام وكأنَّه حدث يحصل يوم الإحتفال (تثنية الإشتراع 16، 31)، ويتعلَّق بكلِّ واحد من المحتفلين بالعيد، هو تذكّر ليومٍ تحرروا فيه من عبوديَّة الأمس ليس ألاَّ. أمَّا فصحنا فانتظار لحدث رهيب، عودة المسيح ليعمَّ ملكوت الله الى جانب كونه الحدث العظيم الذي به تمَّ الخلاص.

8 – الفصح قيامة واستباق لتاريخ. قيامة المسيح صورة عن قيامتنا في آخر الزمان، لأجل ذلك نعيده كلَّ أحد، يوم كان القبر فارغاً والمسيح الذي صلب ومات وقام في اليوم الثالث وكان ذلك في أوَّل الأسبوع، هذا الأحدَ الفصحي هو اليوم الذي تعدَّى الزمان وكأنَّه يوم من السماء تعيشه الأرض، هذا الأحد، وكلُّ أحد، هو استباق لما سيكون باستعادة ما قد كان.

9 - وأخيراً أقول: الفصح هو المرساة التي تربط الجسم البشريَّ كلَّه بالسماء. قيامة المسيح وصعوده حملت الطبع البشريَّ من الأرض وعلَّقته في السماء، وهكذا ضمنت لنا الخلاص وعدم الفناء والغَرَق، تماماً كما تجعل مرساة الباخرة المعلَّقة بالشاطىء قلوب الركَّاب مطمئنة، ومهما عصفت الرياح وعتت الأمواج فهي لن تبعدهم عن شاطىء الأمان. كذلك القيامة هي مرساة رجائنا المربوطة بالسماء، وبدونها نبقى بالقلق والإضطراب.

صلاتي لك أيُّها القائم اليوم، ألاَّ يطول رقادنا أحياء نترقَّبُ الفرج. لقد سئمنا الحياة بين الجمعة العظيمة وسبت الإنتظار، وها نحن نمدُّ أعيننا الى القبر الذي بنيناه لك وأملنا أن نراه فارغاً هذه المرَّة ونقوم معك.