كما كان مُتوقّعا، فإنّ المعارك على الأرض السوريّة التي تراجعت وتيرتها بين ​الجيش السوري​ والقوى الحليفة من جهة، و"المُعارضات" السوريّة على إختلاف أنواعها وتسمياتها من جهة أخرى، لم تنته فُصولاً بعد. فالمعارك مُستمرّة حاليًا ضُدّ مناطق سيطرة مُقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي، وذلك من قبل أكثر من طرف وجهة. فما هي طبيعة هذه المعارك التيتتمتّع بأبعاد إقليميّة ودَوليّة في سوريا، وإلى أين يُمكن أن تؤدّي، خاصة وأنّ أهدافها تتراوح بين التكتيّ والإستراتيجي بامتياز؟

ميدانيًا، يُواصل الجيش السوري والقوى الحليفة له التقدّم نحو الحدود السوريّة–​العراق​يّة، وتحديدًا في محيط منطقة معبر التنف، بهدف ملاقاة قوّات "​الحشد الشعبي​" التي تمكّنت من إلحاق الهزيمة بكثير من مناطق سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق، وباتت تتواجد في أكثر من موقع حُدودي مع سوريا، وأبرزها قضاء البعاج في محافظة نينوي ومخفر تل صفوط جنوب الحسكة، وذلك بعد أن حقّقت تقدّمًا كبيرًا في مدينة المُوصل ومحيطها. وعلى الرغم من أنّ الجيش الأميركي قصف منذ أسابيع وحدات سورية كانت تتقدّم نحو معبر التنف، ثم قام بعد أيّام من هذا الحادث بإلقاء مناشير تدعو القوّات السورية إلى التراجع إلى حاجز "ظاظا"، فإنّ الجيش السوري والقوى الحليفة له، واصلوا قضم أراضي "داعش" في البادية السوريّة، في مسيرتهم البطيئة نحو الحدود، مع التذكير أنّ معارك الجيش السوري مع "داعش" منذ ظهور التنظيم الإرهابي في سوريا كانت محدودة جدًا في الماضي، لكنّها تكثّفت أخيرًا لأهداف لا علاقة لها بإنهاء هذه الظاهرة! ولم ينفع تدخّل واشنطن لدى موسكو لوقف هذا التحرّك العسكري السوري-الحليف المهمّ، علمًا أنّ هدفه إستراتيجي بامتياز وهو مدعوم من إيران، ويقضي بتثبيت أحد أهمّ خطوط الإمداد البرّي بين طهران ودمشق مُرورًا ببغداد، بحيث لا يعود إيصال الإمدادات إلى النظام السوري وإلى "حزب الله" وإلى مُختلف القوى والميليشيات المُوالية لإيران والتي تُقاتل في سوريا حاليًا مُقتصرًا على الجسر الجوّي بين العاصمتين الإيرانيّة والسوريّة وعلى بعض الشحنات البحريّة.

في المُقابل، تعمل واشنطن على أكثر من خطّ لإفشال الخطّة الإستراتيجيّة الإيرانيّة، لما لهذه الخطة من إنعكاسات خطيرة على التوازنات العسكريّة في الشرق الأوسط، وعلى أمن إسرائيل بالتحديد، وكذلك من تأثير على النُفوذ في كل من العراق وسوريا وُصولاً إلى لبنان وحتى الأردن. وتعتبر الولايات المتّحدة أنّ معبر التنف يتمتّع بأهمّية إستراتيجيّة كون السيطرة عليه تعني التحكّم بطريق بغداد–دمشق. وتُخطّط واشنطن بدورها لتسليم جزء من الحدود العراقيّة–السوريّة لعشائر الأنبار، لتأمين طريق برّي يربط بغداد بالحُدود الأردنيّة–السوريّة، ولمنع تواصل ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق مع وحدات "الحرس الثوري" في سوريا. كما تعمل واشنطن على توفير الدعم الكامل لميليشيات كرديّة مُواليّة لها، بهدف مُساعدتها على السيطرة على جزء كبير من الحدود العراقيّة–السوريّة، وتحديدًا في محيط منطقة معبر ربيعة–اليعربيّة. وتواصل القوّات الأميركيّة المحدودة المُتواجدة على الحدود الأردنيّة–السوريّة، تحضير قوّات عسكريّة موالية لها للتدخّل في العمق السوري عندما تدعو الحاجة، لكنّ رفض المملكة الأردنيّة تحريك أيّ عسكري أردني إلى الداخل السوري أثّر سلبًا على هذه الخطّة.

وعلى خطّ مُواز، تدعم واشنطن "قوّات سوريا الديمقراطيّة" التي تمكّنت أخيرًا من قطع طريق الرصافة الإستراتيجي الذي يصل بين مُحافظتي حمص والرقّة، بعدما كانت قد قطعت سابقًا طريق الإمداد الرئيس بين مُحافظتي الرقّة ودير الزور، لتزداد عزلة إرهابيّي "داعش" داخل الرقّة، وليقترب موعد طردهم منها أكثر فأكثر. وفي الساعات الماضية تمكّنت "قوّات سوريا الديمقراطيّة" التي تتكوّن من وحدات كرديّة بشكل أساسي، من إنتزاع السيطرة على سدّ مهمّ على نهر الفرات من يدي تنظيم "داعش"، علمًا أنّ هذا السدّ يبعد 22 كيلومترًا فقط عن مدينة الرقّة. وبسيطرتها على "سد البعث" الذي غيّرت إسمه إلى "سد الحريّة"، باتت "قوّات سوريا الديمقراطيّة" تسيطر على ثلاثة سُدود رئيسة على نهر الفرات. وكان لافتًا أنّ تركيا التي توتّرت علاقتها مع ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة بسبب دعم هذه الأخيرة لوحدات "حماية الشعب" الكردي بالسلاح، كشفت في الساعات الماضية أنّ معركة إستعادة الرقّة قد بدأت وأنّ تركيا لن تُشارك فيها، في الوقت الذي نفت فيه واشنطن إنطلاق معركة الرقّة، أقلّه حتى الساعة.

وفي الختام، يُمكن القول إنّه في الوقت الذي تتواصل فيه الجُهود لتثبيت ما إصطلح على تسميته "المناطق الآمنة" في الداخل السوري، تدور معارك إستراتيجيّة في أكثر من منطقة سوريّة، بتدخّل إقليمي ودَولي مُباشر، حيث تسعى إيران عبر القوى الحليفة في سوريا إلى تأمين التواصل البرّي الإستراتيجي بين طهران ودمشق، بينما تسعى أميركا عبر القوى الحليفة لها في سوريا، لتأمين المناطق السوريّة الحدوديّة مع كل من إسرائيل والأردن وتركيا، لإفشال المُخطّط الإيراني أوّلاً، ولمنع تطويق إسرائيل بقوى مُعادية مُتواصلة جغرافيَا حتى العمق الإيراني ثانيًا، ولمحاولة فرض "مناطق آمنة" داخل سوريا ومنع تركيا من الإستفادة من هذه الورقة ثالثًا. وفي الوقت الذي لا يُعرف بعد أيّ من هذه المشاريع والخطط سينجح وأيّ منها سيفشل، الأكيد أنّ معركة القضاء على إرهابيّي "داعش" في كل من سوريا والعراق دخلت مرحلتها الأخيرة.